لقائي مع المسيح

 

 

 

مقدمة الناشر

 

هذا الكتاب يحوي المذكرات التي كتبتها السيدة / فيبي عبد المسيح صليب (ناهد محمود متولي سابقاً)، والتي تروي فيها قصة لقائها مع السيد المسيح واعتناقها المسيحية، وما تلا ذلك من أحداث.

التفاصيل التي ترويها الكاتبة واقعية، وليست من نتاج خيال كاتب. ونحن ننشرها هنا كاملة دون حذف، أو إضافة، أو تغيير. هذا فيما عدا الأسماء التي آثرنا، بموافقة الكاتبة، وحفاظاً عليهم، إما أن نغفل ذكرها أو نستبدلها بأسماء أخرى مستعارة.

ليس هدفنا من نشر هذه المذكرات المفاضلة بين دين وآخر. بل وليس غرضنا الدخول في مجادلات لا تؤدي إلا للبغضاء والضغينة. ولكن قصدنا هنا هو أن نورد اختباراً حقيقياً لسيدة كانت أبعد ما تكون عن المسيحية، وبطريقة معجزيه أظهر لها السيد المسيح نفسه، دون أن يكون في ذلك كله تدخل من إنسان. إن هدفنا هو مجرد أن نعطي لصوت الاختبار فرصة أن يتكلم عن نفسه، وعلى القارئ تقع – أولاً وأخيراً – مسؤولية تقرير موقفه إزاء هذا الأمر.

ونحن نسأل الله تعالى أن يستخدم هذه المذكرات لتكون سبب بركة للكثيرين. وأن يهدينا جميعاً إلى طريق الحق والحياة الأبدية.

 

                                                                                                                               الناشر

 

باسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين

 

مجداً لله الذي جعل من كانت تضطهد تبشر الآن بالإيمان الذي كانت قبلاً ترفضه.

مجداً للآب أبو ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي يجعل لنا في كل ضيقة وتعزية، ويجعل من حقارتي تعزية لكم، وذلك ليس لبر فيّ ولكن بنعمة الله المعطاة لي من أجلكم.

مجدوا الله دائماً واذكروني. تذكروا عمل الله القوي والعجيب فيّ واعلموا إني لم أقبل الإيمان من بشر، ولكن من ربنا يسوع المسيح، الذي له المجد الدائم من الآن إلى الأبد. آمين

أكتب هذا قدام الله، والله شاهد إني لا أكذب فيه، ولكن لكي أقدم شهادة حق، أقدم عمل إلهنا العجيب فيّ.

كان لساني متعجرفاً جامحاً لإهانة اسمك، ولكنك كبحت جماحه

منذ الآن كرست نفسي لك، معترفة بك، فلتكن إرادتك لا إرادتي.

إلهي إني لك، وفي هذا كفاية لي ولا أريد غير ذلك.

لا تسمح لي يا سيدي الحبيب أن أقوم بعمل لا يتفق مع إرادتك.

ولكن لتوجهني محبتك الساكنة في أعماق نفسي.

"بسمع الأذن قد سمعت عنك والآن رأتك عيني"

 

 


كنت

 

كنت ناهد محمود متولي، وكيلة شؤون الطالبات بمدرسة حلمية الزيتون الثانوية بنات، أكبر مدارس القاهرة. كان بالمدرسة حوالي أربعة آلاف طالبة ولذلك اضطرت إدارة المدرسة أن تقسم الدراسة إلى فترتين، فترة صباحية وفترة مسائية. وكنت أنا كوكيلة لشؤون الطالبات مسؤولة عن الفترتين، مع أني أصغر الوكيلات سناً وأحدثهم تخرجاً، ولكني وصلت لهذا المركز لسببين:-

 

السبب الأول:  

وهبني الله شخصية متميزة، شخصية قوية و وهبني أيضاً الذكاء. كنت أثق بنفسي وقدرتي على أن أي عمل أقوم به، أعمله على أكمل وجه. كنت أتعلم كل شيء بمنتهى السرعة، دون أن أطلب من أحد أن يعلمني، ولكن بمجرد مراقبة الآخرين في هدوء بينما كنت أتظاهر أني لا أراقب أحداً.

 

رقيت إلى مركزي هذا قبل دوري بعشر سنوات. تعلمت أعمال شؤون الطالبات من وكيلة قبلي أكبر سناً، وأنا أساعدها في بعض الأعمال البسيطة حتى أتقنت عملي أكثر منها. أيضاً تعلمت أعمال الامتحانات وطباعة الأسئلة من وكيلة أخرى أكبر سناً، كنت أراقبها بمنتهى الدقة وهي تستعمل آلة الطباعة لطبع أسئلة الامتحانات وكل أعمال السريات حتى تفوقت عليها. أتقنت الطباعة أكثر منها، وجاءت الفرصة لأظهر كفاءتي عندما بلغت إحدى الوكيلتين سن الستين، وكانت المسؤولة عن الطباعة وأعمال الامتحانات وحصلت الأخرى – المسؤولة عن شؤون الطالبات – على إعارة إلى إحدى الدول العربية، وبالتالي قمت أنا بعمل الوكيلتين معاً. وأصبح كل عمل سري وهام في يدي وشعرت أني ملكة في المدرسة، كل شيء بأمري، لا يستطيع أحد أن يقف أمامي أو يرفض لي طلب. أصبحت الآمر الناهي في المدرسة، حتى مديرة المدرسة أصبحت صديقتي ولا تستطيع أن تتخذ قراراً بدون استشارتي. الجميع يحسبون لي كل حساب. كنت أشعر أن الله يزيدني قوة وذكاء ورهبة. الجميع يخافني ويحاول أن يرضيني، وزادني هذا علواً حتى أني أصبحت أنظر إلى الجميع على أنهم دوني بكثير.

 

ولم أقف عند هذا الحد ولكن طلبت أن أكون وحدي المشرفة على مجموعات التقوية. كنت أقوم بنفسي بتحصيل قيمة المجموعات من الطالبات، وكنت أجمع ما بين اثني عشر وخمسة عشر ألف جنيه شهرياً. كنت أحصل على مكافأة شهرية ما بين مائتي وخمسين جنيهاً وثلاثمائة جنيهاً، بالإضافة إلى ثلاثمائة جنيه من أعمال الطباعة والامتحانات.

والسبب الثاني: كان السبب الثاني في وصولي إلى هذا المركز هو أسرتي والمراكز المرموقة التي يشغلها أفراد أسرتي، فزوج شقيقتي الكبرى وكيل أول ونائب وزير الحكم المحلي ورئيس مجلس أباء المدرسة على مدى ست سنوات، حيث كانت ابنتاه طالبتين بالمدرسة. أخي مدير إدارة التوصيف بالجهاز المركزي للتنظيم والإدارة. زوج شقيقتي الصغرى مقدم طيار، برئاسة الجمهورية. أختي مديرة العلاقات العامة بإدارة مصر الجديدة التعليمية، وزوجها عميد بالمخابرات العامة.

 

زادني كل هذا غروراً واستعلاء، هذا بالإضافة إلى لباقتي في الحديث فقد كنت أتكلم لمدى ساعات ولا يمل أحد من حديثي، لدي الحجة القوية، والإقناع وقوة الشخصية وازددت ارتفاعاً وعلواً.

 

كان هذا هو مظهري من الخارج، ولا أحد يعرف ما بداخلي، إنه مختلف تماماً. كنت بداخلي إنسانة رقيقة حساسة تحب الله، نعم أحبك يا رب من كل قلبي، وأخاف منك، وأشعر أني بعيدة عنك. كنت أبحث عن الله دائماً، وأشعر أن هناك حاجز بيني وبينه، ولا أعرف كيف أعبر هذا الحاجز. كنت أصلي كثيراً واقرأ القرآن كثيراً، ولكن. كلما قرأت أكثر، كلما ازداد البعد بيني وبين الله، ورغم أني أحببته أكثر إلا أني كنت أشعر أن هناك خطأ ما. كنت أكره المسيحيين لا لشيء إلا لأنهم لا يحبون الإله الذي أحبه ولا يعبدونه بطريقتي، ولأنهم ضلوا الطريق ولذلك يجب أن أكرههم.

 

كنت أتفنن في إهانتهم، وإيذائهم، والإيقاع بهم، لا لأني شريرة، ولكن لأنهم لا يحبون الله الذي أحبه، والذي أعبده. وكان هناك شيء يحيرني: ما هذا السلام الذي افتقده أنا، وأبحث عنه في كل مكان؟ إني أغنى منهم جميعاً، وارتدي أفخم الثياب، ولا ينقصني شيء، ولكن هناك شيء أقوى بداخلهم. كنت أعرف الشخص المسيحي من نظرة عينيه . . نظرة عميقة. ثابتة. هادئة . . لماذا؟

 

كان علي أن أحاول إثارتهم لأفقدهم هذا السلام الذي يحيرني، والذي أبحث عنه دون جدوى.

 

وفي يوم حضر إلى مكتبي قس، وعندما دخل من الباب بملابسه السوداء، شعرت برعشة قوية . . لكني تماسكت وقلت في نفسي لقد وقع في يدي. تجاهلته تماماً، تركته يدخل ويمشي إلى أن وصل أمام مكتبي، وقف ينظر إلي، وتظاهرت وكأني اقرأ في أوراق هامة أمامي. بعد فترة ناداني بصوت هادئ: "حضرتك مدام ناهد متولي؟"

 

رفعت رأسي ونظرت إليه، وحينما وقعت عيني على عينيه شعرت أني خائفة منه، إنه أكثر ثباتاً وسلاماً. ولكني تماسكت وقلت له باستهزاء "نعم" مد يده نحوي وهو ممسك بأوراق تحويل وقال في هدوء "أريد أن أحول ابنتي من مدرسة بالصعيد إلى مدرستكم." رفعت أنا صوتي مقاطعة "من الصعيد إلى حلمية الزيتون مرة واحدة . . لماذا؟" قال في أدب "ظروف خارجة عن إرادتي" وأضاف بسرعة "هذا إيصال نور باسمي يثبت أن سكني في المربع السكني التابع لمدرستكم، وهذه أوراق تحويل اخوتها بالإعدادي والابتدائي وكلها موافق عليها." أخذت منه الورق أفحصه لعلي أجد أي خطأ لكي أرفض التحويل، ولكني لم أجد شيئاً، رفعت رأسي ونظرت إليه فوجدته ينظر إلي نظرة عجيبة، كلها سلام وهدوء وثبات وفي نفس الوقت رقة وأدب. حاولت أن استفزه أو أثيره فقلت له "نريد تبرع للمدرسة" قال بكل أدب "موافق،" فقلت له "أثاث لا يقل عن 100 جنيه،" قال بكل ترحاب "موافق،" ثم أضاف في هدوء "لكن أرجوك أولاً وقعي بالموافقة لأني سوف أرسل هذا الورق إلى الصعيد الآن مع شخص سوف يسافر بعد ساعة، وأنا سوف أذهب في الحال وأشتري ما تريدين." ومع أن التحويل كان من حقه وكنت أتوقع أن يثور أو يرفض أن يتبرع، أجده يستعطفني، وثرت وقلت له بكل حدة "لا ما أريده أنا أولاً" قال في هدوء "ثقي في وصدقيني." لم أحتمل نظرته لي ووجدتني أوقع بالموافقة ودعوته للجلوس. أخذت الورق وانطلقت إلى الحجرة المجاورة لحجرتي، حجرة شؤون العاملين، لكي أختم الورق بنفسي مع أني لا أتصرف هكذا أبداً، شعرت وكأنه حرك شيئاً ما بداخلي لا أعرفه ولكنه شعور عجيب. إني معجبة به وأريد أن أعتذر له، أريد أن أقول له لا أريد منك تبرعاً، أريد أن أقول له سامحني على الطريقة التي عاملتك بها، ولكني لم أستطع أن أنطق بكلمة واحدة.

 

وكانت الصفعة قوية عندما عاد بعد أقل من ساعة وفي يده إيصال سداد لمكتب ثمنه 120 جنيه، قال وهو سعيد "تستطيعي أن ترسلي أحد عمال المدرسة لإستلام المكتب." ولأول مرة في حياتي أشعر بالندم. شكرني وصافحني وانصرف، وهو لا يدري ما يدور بداخلي . . إني في حالة سيئة جداً ويدور برأسي سؤال واحد: ما هذا الشيء الذي بداخل هذا الرجل؟ وكيف يتصرف بهذا الأسلوب الرقيق المؤدب؟ فيه ما افتقده وأبحث عنه . . السلام.

 

حاولت أن أنسى كل ما حدث ولكني من آن لآخر كنت أتذكر نظرته إليّ وعيناه المملوءتان عمقاً وسلاماً . . لكني تناسيت الموضوع وعدت إلى أسلوبي مرة أخرى بل وبأكثر شدة.

 

وفي العام الدراسي 1986 – 1987 صدر قرار الوزير بتعيين مدير عام مسيحية في مدرستي، وكانت صدمة بالنسبة لي إذ كيف تكون لي رئيسة مسيحية؟ كيف . . لا أستطيع أن أحتمل هذا الموقف. بدأت أدبر خطة محكمة لأرغمها على ترك المدرسة، لابد أن أكثف جهودي ضدها لأدفعها أن تهرب من المدرسة. بدأت أتجاهلها كأنها غير موجودة، أخذت أشعرها أنها لا شيء بالنسبة لي، وأنها تجعل اللوائح التي احفظها أنا عن ظهر قلب، وكلما أبدت رأياً في أي موضوع أجيبها بخيبة أمل، وأخذت أتصيد لها الأخطاء وانتهز أية فرصة لأشعرها أنها ليست في موضوع احترام بالنسبة لي.

 

وجاءت الفرصة الذهبية لكي أوقع بها، لقد أخبرتني إحدى المدرسات المسلمات أن أحد الفصول بالفرقة الثانية علمي به عدد كبير من الطالبات المسيحيات وقد قمن بعمل مجلة حائط بها بعض الآيات من الإنجيل، وعلى الفور توجهت لهذا الفصل ونزعت المجلة من على الحائط. إنها الفرصة التي كنت انتظرها من زمن، وجلست لأكتب خطاب سري وهام إلى مدير عام إدارة شرق القاهرة متهمة فيه تلك السيدة، إنها هي المحرض للطالبات اللاتي قمن بهذا العمل الفظيع، وأنها تقصد بذلك إثارة فتنة طائفية في المدرسة، وطلبت سرعة التحقيق واتخاذ اللازم. ولم أستطع الصبر إلى الغد لأرسل هذا الخطاب السري الهام بالبريد بل أرسلته مع مندوب خاص ليسلم باليد. وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة مبكرة لأرى بنفسي ما سيحدث. أرسل مدير عام الإدارة محققة مسلمة محجبة للتحقيق في هذا الموضوع، وبدأ التحقيق مع الطالبات الأربعة اللواتي قمن بعمل المجلة كل واحدة على انفراد. رأيت الرعب الذي ملأ الطالبات، كانت كل طالبة تدخل إلى المحققة وتمكث ساعة أو أكثر وتخرج منهارة باكية، حتى انتهى التحقيق مع الطالبات. وجاء دور مدرسة الدين المسيحي وكانت هي إحدى مدرسات العلوم بالمدرسة، وتقوم أيضاً بتدريس الدين المسيحي، ومكثت مع المحققة مدة أطول، ثم شاهدتها وهي خارجة وعينيها حمراوتين كالدم من شدة البكاء. أما أمينة الفصل وهي مدرسة مسيحية كانت تقوم بتدريس مادة الرياضة . . وهي إنسانة رقيقة ومؤدبة، فقد نظرت إلي والدموع تنهمر من عينيها، وكادت أن تستعطفني وقالت "هل أنا مجنونة يا أبلة ناهد لكي أحرض الطالبات لمثل هذا العمل؟" ولم استطع الرد عليها.

 

وجاء دور المدير العام وسمعت صوتها وهي تصرخ قائلة "لا . . لا، يمكن إني أرفض هذا الاتهام وأرفض الإجابة وأرفض أن يحقق معي . . أنا ذاهبة إلى الوزير." وخرجت تجري من المدرسة.

 

لا أستطيع أن أصف حالة الرعب وجو الخوف الذي ساد على مسيحيي المدرسة. وزادني هذا الشعور كبرياء، ورحت أطيح بالكل دون أن يوقفني أحد، وأصدرت أمراً بمنع أية طالبة مسيحية أن تعلق صليباً. وزاد جفائي للمسيحيين لدرجة أني لم أكن ألبي لأحد منهم أي طلب، حتى ولو كان من حقهم، وبدأ الجميع يخافني أكثر وأكثر ويتحاشاني.

 

ولم أقف عند هذا الحد . . لابد أن أضرب المدير المسيحية ضربة قاضية، وأخذت انتهز الفرص لكي أنفرد بها. مكثت أراقبها . . متى تحضر إلى المدرسة ومتى تتصرف، ولاحظت أنها تأتي مبكرة، فرسمت خطتي على هذا الأساس وأحكمتها بحيث انفرد بها فور وصولها إلى المدرسة وقبل حضور الجميع. في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة مبكرة جداً، وبعد لحظات حضرت ودخلت إلى مكتبها المجاور لمكتبي، فدخلت عليها في مكتبها وعلامات الشر واضحة على وجهي. وعندما نظرت هي إلي بدى عليها الخوف والرعب، فزادني هذا شجاعة، وقلت لها في حدة: "ماذا تفعلين هنا؟ أنا لا أطيق وجودك معي في هذه المدرسة، ولا أريد أن تبقي هيا أخرجي." ولم تصدق نفسها ولم تصدق ما سمعت ونظرت إلي في ذهول وقالت: "ماذا تقولين؟ هل جننت يا ناهد؟" قلت لها: "أنا جننت!! أنت المجنونة ولن يجمعنا مكان، هيا اخرجي." لاحظت أنها تحاول الهروب من أمامي، فمددت يدي وكأني سأضربها وقلت لها: "إن مكثت هنا سوف أقتلك!" وإذ بها تجري من أمامي باكية، رفعت صوتها تطلب نجدة، فجريت إلى مكتبي وجلست وكأن شيئاً لم يحدث، وسمعتها تصرخ وتقول: "الحقوني ناهد تريد أن تضربني وتقتلني." تجمع بعض المدرسين ووجدوني جالسة في مكتبي هادئة مبتسمة ونظرت إليها مشفقة وقلت: "ما هذا الذي تقولينه؟ لن يصدقك أحد . . لماذا تتهميني بهذه الحماقة؟" لكنها خرجت مسرعة من المدرسة إلى مكتب وكيل الوزارة، وفي نفس اليوم أرسل وكيل الوزارة محقق للتحقيق معي، وكان المحقق مسلماً، وعندما أنكرت كل ما قالته عني، صدقني على الفور وخصوصاً أن هناك مجموعة كبيرة تطوعوا وشهدوا أنهم كانوا جالسين معي في مكتبي في ذلك الوقت، وشهد الجميع أن هذه السيدة تكرهني وأنها دبرت هذه القصة لتتخلص مني لتحل مكاني أخرى مسيحية، وتحولت القضية إلى تعصب ديني وكان ذلك لمصلحتي.

 

ولم تستطع المديرة البقاء في المدرسة أكثر من ذلك وطلبت نقلها إلى الوزارة، وبالفعل صدر قرار نقلها وخرجت من المدرسة بلا عودة. وشعرت بعد هذا الانتصار أني ازداد كبرياء وازددت قسوة على مسيحيي المدرسة، وأيضاً ازداد الجميع خوفاً مني، وأصبحت بالفعل ملكة. وسيطرت أكثر وأكثر . . لا يرد لي طلب ولا ترفض لي كلمة، ولا يتم شيء بالمدرسة – حتى وإن لم يكن من اختصاصي – إلا بموافقتي عليه. ولم يقوى أحد على أن يقف أمامي أو أن يناقشني، وإذا تصادف ووجدت طالبة تعلق صليباً على صدرها لم أكن أتورع عن أن أنزعه منها، وألقيه على الأرض.

 

                                                         هكذا كانت ناهد محمود متولي

 


لقائي برب المجد

 

لم أكن أعرف أن الله قد تركني أتعالى وأرتفع لأنه سوف يدعوني أن أترك كل هذا. لم أكن أعرف أن الله يكسبني كل هذه المهارات والذكاء والقوة لأنه سوف يستخدمني في عمل آخر.

 

ولم أكن أعرف أن الله قد وهبني قوة الشخصية وعذوبة الحديث وقوة الحجة لأنه يريد أن يستخدم كل ذلك لغرض آخر. كنت أمشي في المدرسة وكأني أتحدى الجميع، لا يستطيع أحد أن يقف أمامي، لقد أصبحت المدرسة مملكتي وتوجت عليها ملكة بلا منازع.

 

ولكن رغم هذا كله كنت حزينة، وكان هناك فراغ بداخلي، إني أحب الله بكل قلبي ولكني بعيدة عنه، كان هناك حاجز بيني وبين الله. ربما يكون هذا الحاجز من كثرة ذنوبي، وسألت نفسي يوماً هذا السؤال: إذا مت الآن بماذا أقابل الله؟ بذنوب فقط . . لا . . لابد أن أعمل لآخرتي. أنا غنية، علي أن أسافر إلى السعودية لاعتمر. وبالفعل تمت إجراءات سفري بسرعة عجيبة، واشتريت ملابس العمرة، وركبت الطائرة وصلت إلى مطار جدة في الواحدة بعد منتصف الليل، ثم أخذت سيارة إلى مكة، ورغم مشقة السفر إلا أنني لم أستطيع أن أصبر إلى صباح اليوم التالي. ودخلت إلى الكعبة وكلي شوق أن أكون قريبة من الله، وأن أعبر ذلك الحاجز الذي يبعدني عنه، ووقفت أصلي وأدعو الله ربي وأقول له أنا أحبك ولكنني بعيدة عنك، قربني إليك، اجعلني أشعر بك، المسني، ربما يكون الشيطان يحاول أن يجعلني لا أشعر بك. وظللت أطوف حول الكعبة لعل شيئاً ما يحركني، ولكن بدون جدوى.

 

رجعت إلى بلدي بعد عشرة أيام وأنا محطمة أكثر من ذي قبل، وعرفت أن هناك شيء ما، خطأ بي أنا، وعلي ألا أكف بل يجب ان أرضي الله أولاً وأن أبحث عنه وعن الطريق الذي يوصلني إليه.

 

وكنت دائماً أسأل نفسي هل معقول أن يخلقنا الله لنكون عبيداً له ثم سوف يحاسبنا بهذه الطريقة المرعبة؟ لا هناك شيء خطأ. لابد أن أعرفه يوماً ما . . هل معقول أن يكون الله بهذه القسوة؟ لا . . هذا غير معقول! لقد خلق الله لنا هذا العالم لنتمتع به، وجعلنا متسلطين على كل شيء فيه، وهذا معناه أنه يحبنا . . وظللت في حيرتي أبحث ولكن دون جدوى، كان الفراغ الذي بداخلي يعذبني، وبعدي عن الله يعذبني أكثر. وحاولت أن أنسى كل شيء واستمتع بحياتي وكل ما وهبني الله، ولكني لم انجح رغم أني امتلك كل شيء، مركزاً مرموقاً، أشهر من نار على علم في وزارة التربية والتعليم وكل الإدارات التعليمية، دخلي كبير جداً فأنا حاصلة على بكالوريوس تربية رياضية عام 1963، ومنذ تخرجي وأنا أعمل ولي مدة خدمة طويلة فأنا في الدرجة الأولى ثم أن أني أحصل على دخل كبير من الإشراف على المجموعات وأعمال الطباعة. لدي ثلاثة أولاد متفوقين في دراستهم وناجحين في حياتهم، ولي شقتي الخاصة بي رغم أني لم ادخلها منذ أن استأجرتها، ولي سيارتي الخاصة، وأنا مطلقة منذ عام 1983.

 

وفي أحد الأيام سألتني ابنتي قائلة: "ماما هل أستطيع أن أتزوج من شاب مسيحي؟" ثرت وصرخت في وجهها: "لأ طبعاً موش ممكن، وإذا فكرت مجرد التفكير في هذا الموضوع سوف أقتلك بنفسي." أضافت قائلة: "إنه مهندس من أسرة كبيرة وكل أسرته مهاجرة في أمريكا . . سوف أسافر معه ونتزوج هناك ولن يعرف أحد في مصر إلا أنت." صرخت مرة أخرى: "أنت مجنونة كيف تكوني مسلمة وتتزوجي من شاب مسيحي! هذا حرام" وطلبت منها أن تعاهدني أن لا تتصرف أي تصرف دون علمي.

 

وهبني الله أنا وابنتي هبة عظيمة كنت في أي موقف أو مشكلة أسأل الله فيجيبني في رؤيا لدرجة أني كنت أعرف نتائج امتحانات أولادي قبل ظهورها. طلبت من ابنتي أن تسأل الله هل من الممكن أن تتزوج هذا الشاب وأن تخبرني بصدق بماذا أجابها الله. وفي صباح اليوم التالي روت لي ابنتي ما رأت فقالت: "رأيت أني أسير في شارع واسع على شاطئ مياه كثيرة، ولما قربت من نهاية الشارع وجدت أني في مفترق طريق، لم ادر أي الطريقين أختار، فوجدت ثلاث فتيات محجبات قلن لي تعال معنا، لكني لم أشعر بالراحة أن أذهب ووجدت طفلة جميلة ترتدي فستاناً أخضر به صلبان بيضاء كثيرة، أخذت بيدي وسرت معها وأنا سعيدة." وعندما انتهت من حديثها لم أفهم ما المقصود بهذه الرؤيا، وقلت لها بشدة "أنت تهذين لأنك معجبة بهذا الشاب وتريدين الزواج منه ولكن أنا غير موافقة ولا تضطريني أن استخدم أسلوباً آخر معك،" وأمرتها ألا تعود إلى مقابلة هذا الشاب أو مجرد التفكير في هذا الموضوع، ووعدتني بذلك وانتهى الأمر ونسينا الموضوع.

 

حدث خلاف بيني وبين سكرتيرة المدرسة المسلمة، وطلبت نقلها من المدرسة وإحضار سكرتيرة أخرى أمينة، فحضر الموجه المالي والإداري ووعدني بنقلها وأن تحل محلها سكرتيرة أخرى أمينة . . نشيطة . . مؤدبة: ولكن مسيحية. في بادئ الأمر لم أوافق على دخول سكرتيرة مسيحية، وذلك لأني سوف اضطر إلى التعامل معها، بظروف عملي. ولكني عدت ووافقت لأنه أقنعني انه من أهم شروط السكرتيرة الأمانة، وهذا الشرط موجود، وهو يثق فيها أكثر من نفسه "على حد قوله." جاءت السكرتيرة الجديدة "سامية" ودخلت مكتب المديرة، وكنت بالطبع جالسة لأوى من تكون. وكانت دهشتي عندما وجدتها تترك جميع من بالمكتب وتحييني بكل رقة . . وجدتني أبتسم لها باستنكار ولكنها لم تبال، ولاحظت أنها تعلق على صدرها صليباً جلدياً كبيراً، فقلت في نفسي إنها جديدة في المدرسة ولا تعرف من أنا وما أريد ولابد أن أحداً سوف يخبرها، وأنها لا محال سترضخ لأوامري.

 

وفي اليوم التالي أرسلت إليها لتأتي إلى مكتبي، وبعد لحظات قرعت الباب ودخلت فأشرت لها بالجلوس فجلست، ومكثت أحدق فيها وأنا في دهشة أنها مختلفة تماماً، قوية، شجاعة، وفي نفس الوقت مؤدبة لأقصى درجة، واثقة من نفسها لا تبالي بنظراتي لها. في داخلها ما افتقده أنا وأبحث عنه، ولأول مرة أشعر أني صغيرة، نعم أنا أصغر منها رغم أنها في الثلاثين من عمرها وأنا في الخامسة والأربعين من عمري . . بدأت أناقشها في طريقة تعاملنا، ويا للعجب أنها تريد أن تريحني أنا وتتحمل هي العبء الأكبر، إنها تشعرني أنها تحبني . . لماذا تحبني؟ رغم أني واثقة أن جميع مسيحيي المدرسة قد حذروها مني.

 

في داخلي كنت معجبة بها، وبدأت أميل إليها. طريقة كلامها مختلفة، صوتها رقيق، أسلوبها مؤدب، إنها مختلفة تماماً، لها نظرة عميقة وثابتة، كلها هدوء وسلام. لاحظت أنها لا تزال تعلق الصليب الجلدي الكبير، ولكني لم أجرؤ أن أكلمها كلمة واحدة. أنها أحسن مني رغم أني ملكة لكنني شعرت أنها أحسن مني. أحببت سامية . . وبدأت بيننا صداقة . . كنت أرغب الكلام معها لأعرف ما بداخلها . . وكنت أختلق الأسباب لأتستدعيها إلى مكتبي. كان ذلك في شهر 9 عام 1987. كنت أتحدث معها لمدى ساعات ولا أمل، بل أريد المزيد، وفي يوم قلت لها "تصدقي بالله يا سامية" ردت علي قائلة بكل ثقة "لا إله إلا الله" ولم أصدق ما سمعت . . كانت صدمة عنيفة وقوية، وقلت لها في دهشة "المسيحية تقول إله واحد" ردت بكل ثقة "نعم إله واحد آمين" فقلت لها "إن ما أعرفه أنكم تقولون أن الله هو المسيح وهو العذراء مريم." قالت في قوة "لا هذا شرك بالله ونحن غير مشركين، نحن نعبد إله واحد" وأضافت بهدوء "العذراء مريم والدة المسيح هي إنسانة عادية وليست إله" . . شعرت كأن هرماً كبيراً ينهار. المسيحية تقول إله واحد . .؛ ؛ هذا غير ما كنت أعرف لقد ظلمتهم بجهلي . . كلي شوق أن اسمع المزيد مع أني محطمة وأشعر بالخجل. وتذكرت كل ما فعلته بالمسيحيين . . يا لجريمتي الشنعاء . . ولم أقف عند هذا الحد كنت أريد أن أعرف المزيد وقلت لها "كلميني عن المسيحية." وعندما بدأت سامية الكلام . . عندما فتحت فمها فوجئت برائحة بخور زكية . . عجباً لم أشتم مثلها من قبل وشعرت أني في غيبوبة لا أعرف أهذا حلم أم حقيقة! حاولت أن أبدو متماسكة وأصغيت إليها بكل انتباه وهي تقول "نشأت القديسة العذراء مريم يتيمة الأبوين وتربت تربية دينية في الهيكل حتى بلغت سن الثانية عشر من عمرها، فخطبت إلى أحد الشيوخ ليتكفل بها، وقبل أن يتزوجها حملت بالسيد المسيح" قاطعتها قائلة "نعم هذا الكلام صحيح . . إنه مكتوب أيضاً في القرآن." ولم أقو على الاستمرار في الحديث . . إني متعبة . . ضعيفة . . منهارة. أنهيت الحديث معها . . تركتني وخرجت وهي لا تدر ما يدور بداخلي . . لقد أشعلت ناراً بداخلي لا أقوى عليها، وبدأت أسأل نفسي: من هو المسيح؟ إن مجرد ذكره يحرك بداخلي أحاسيساً عجيبة لم أشعر بها من قبل، إن اسمه فيه راحة. إني أحبه ولا أعرف القدر الكافي عنه . . لابد أن أعرفه جيداً، وبدأ شوقي إليه يأكلني ، زاد حبي لسامية لدرجة أني كنت انتظر الصباح لأذهب إلى المدرسة لأقابلها وأشعرتني هي أنها تحبني من اللحظة الأولى، وأكدت لي حبها في معاملتها معي، رغم تحذير جميع مسيحيي المدرسة لها، لكنها كانت مندفعة نحوي بقوة عجيبة.

 

من حين إلى آخر كانت تراودني أفكار شريرة، وبالتالي كنت أضع سامية تحت الاختبار لأتأكد من صدقها، فمثلاً كنت أحياناً أعطيها مبلغاً على أساس أنه ألف جنيه وأضيف إليه عشرة جنيهات وأؤكد لها أني قمت بعد المبلغ جيداً، ولكن بعد لحظات أجدها عائدة بالعشرة جنيهات وهي تقول "وجدت هذه زيادة." كررت اختباراتي لها ولكنها في كل مرة كانت تؤكد أنها فعلاً صادقة وأمينة. لجأت إلى طريقة أخرى وهي محاولة إثارتها بطريقة كلامي أو بالسخرية مما تقول، ولكنها كانت دائماً قوية، لم تفقد سلامها ولا هدوءها وكانت دائماً مبتسمة، وكأنها تعرف دائماً ما أدبر لها.

 

مرت الأيام وأنا لا أستطيع أن أشغل نفسي بموضوع آخر، أو حتى أن أكف عن التفكير في هذا الموضوع، وكنت من حين لآخر اطلب من سامية أن تكلمني عن المسيح، وعن تعاليمه، وكانت في كل مرة تبدأ فتح فمها أشم رائحة البخور، وراودني الشك لماذا هذه الرائحة مرتبطة بالحديث عن المسيح؟ ربما كانت سامية تخفي شيئاً ما في جيبها أو في يدها ثم تطلق هذه الرائحة لكي تقنعني بصدقها، وظللت أراقبها وهي تتكلم، وفكرت ربما كانت هذه الرائحة قوية لأننا في مكان مغلق، أخذتها لأكلمها في الشرفة ولكني وجدت نفس الرائحة وربما أقوى، قررت أن أكلمها في حديقة المدرسة ولكن الشيء العجيب أني أجد الرائحة أقوى من كل مرة، وتأكدت من أن سامية ليست مصدر الرائحة، ولكن الله يريد أن يؤيدها فيما تقول.

 

اختلت كل موازيني وشعرت أني تائهة، أين الحقيقة؟ إني أحب الله من كل قلبي وكياني ولكنني أشعر أني بعيدة عنه ويؤلمني هذا البعد، وهذا الفراغ الذي بداخلي يعذبني. هناك حاجز بيني وبين الله وكل ما أريده هو أن أعبر هذا الحاجز وأصل إلى الحبيب . . إني أحبه وفي نفس الوقت أخاف منه، وأعلم جيداً أنه سيأتي يوماً أقف بين يديه واقدم له كشف حساب عن حياتي، ولكن لا أرى في حياتي إلا ذنوبي . . لا . . لا بد أن أعرف الحقيقة مهما كلفني!!

 

وفي يوم 25 من نوفمبر 1987 تأخرت سامية عن الحضور إلى مكتبي، وشعرت أني من أشد الحاجة إليها فأرسلت في طلبها، وبعد لحظات دخلت إلى مكتبي وهي سعيدة متهللة فسألتها "لماذا أنت فرحة هكذا؟" قالت في هدوء "اليوم يبدأ صوم الميلاد المجيد" قلت لها وأنا ساخرة "صوم . . وهل في المسيحية صوم . . وهل تصومون فعلاً أم تأكلون وتشربون وتقولون صوم" فأجابت بكل ثقة "نعم نصوم وصوم حقيقي، وننقطع عن الطعام فترة طويلة ولكن كل فرد حسب مقدرته، ونصوم عن أشياء أخرى كثيرة لكي تكون فترة الصوم مقدسة."

 

ولم أجد شيئاً أسخر منه بعد أن سمعت ما قالته، ومكثت أحدق فيها وأنا صامتة حتى وقع نظري على شيء صغير يشع منه الضوء بجوار الصليب الجلد الكبير، سألتها "ما هذا" ردت "هذه أيقونة للعذراء القديسة مريم،" قلت في نفسي ولم أجرؤ أن أرفع صوتي "هل كان في عصر العذراء مريم مصور أو رسام أخذ لها صور أو رسمت لها صورة حتى يعرفوا ما إذا كانت هذه فعلاً صورتها أم لا!! يا لسذاجة المسيحيين!! إني أقسم أن هذه الصورة هي خيال أحد الفنانين رسمها وقال هذه هي العذراء مريم وصدقه جميع المسيحيين." وقبل أن أنتهي من حديثي مع نفس وإذ بالأضواء تختفي، وأرى أمامي من له ضوء أقوى ورائحة بخور قوية وكثيفة، وكأن عمود من دخان انتهى بسيدة رقيقة جميلة بيضاء، ناصعة البياض، رقيقة الملامح، واقفة أمامي ترتدي ثوباً سماوياً وعلى رأسها طرحة بنفس اللون ويديها ممدودتان لأسفل وتنظر إلي . . لم أحتمل هذا المنظر وصرخت صرخة مكتومة قائلة "العذراء مريم" وكأني في غيبوبة لم أصدق ما رأيت، ولكني رأيتها بنفسي وفي الحال اختفت.

 

أفقت لأجد سامية أمامي منهارة . . تبكي وأنا أيضاً أبكي. اكتشفت أني أنا الساذجة وأنها هي الحقيقة وشعرت لأول مرة في حياتي أني محطمة . . أنا لا شيء . . إني مثل قشة تتخبط . . ماذا أفعل ساعدني يا ربي أن أتحمل.

 

انصرفت من المدرسة عائدة إلى منزلي . . نظرت إلى أولادي الثلاثة وقلت ماذا سيكون موقفهم لو عرفوا أني أصبحت مسيحية وماذا سيكون وضع والدهم! إنه مدير عام بوزارة الأزهر . . صحيح أني مطلقة منذ عام 1983، ولكن حرصاً على مصلحة الأولاد وشكل الأسرة العام في المجتمع اتفقنا أن نعيش معاً في منزل واحد كأزواج، لكننا منفصلون تمام الانفصال.

 

تذكرت أسرتي والمراكز المرموقة التي يشغلونها، إني سوف أكون عاراً على الجميع، وأنا . . ومركزي الذي وصلت إليه بكفاح، هل أحطم كل هذا؟ أنا في حيرة . . وهل يتركوني وشأني . . لا إذا أخذتهم الشفقة سوف يضعوني في مصحة عقلية، وربما من تأخذه الحمية ويقتلني، ولن يعاقبه القانون لأنه ينفذ حد الردة.

 

ووجدت الحل . . لقد خلقني الله مسلمة في أسرة مسلمة، فما ذنبي؟ لن أفكر في هذا الموضوع مرة أخرى ولن أحطم كل شيء بنفسي، لابد أن امنع سامية هذه عن الحضور إلى مكتبي أو الكلام معي في أي موضوع خارج عن العمل. واستسلمت لما أنا فيه وقررت أن أصلي أكثر لعل الله يهديني، وأيضاً لابد أن أقرأ القرآن كثيراً ولا أدع لنفسي أي وقت فراغ للتفكير مرة أخرى. وفي أول يوم أمسكت المصحف وأخذت أقلب في صفحاته وقادني الله إلى سورة مريم إلى أن وصلت إلى:-

 

"واذكر في الكتب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً (16) فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً (17) قالت أني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً (19) قالت أني يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً (20) قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمراً مقضياً (21) فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً (22)فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً (23) فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً (24) وهزي إليك بجذع النخلة تسقط عليك رطباً جنياً (25) فكلي واشربي وقري عيناً فإما ترين من البشر أحداً فقولي أني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم أنسياً (26) فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فرياً (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً (28) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً (29) قال أني عبد الله آتاني الكتب وجعلني نبياً (30) وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصني بالصلوة والزكوة ما دمت حياً (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً (32) والسلم علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً (33).

 

وازدادت النار داخلي اشتعالاً . . لابد أن أعرف الحقيقة . . إن ما بداخلي أقوى من أن أسكته أو استسلم لوضعي . . لا . . وبدأت أسأل نفسي لماذا كل هذه الكرامة لهذه السيدة إذا كانت أم لبشر عادي؟ ولماذا يولد المسيح بهذه المعجزة الخارقة للطبيعة إذا كان بشراً أو نبياً؟ ولماذا خصه الله بصفاته شخصياً: يحيي الموتى . . يشفي المرضى . . يفتح أعين العميان . . يطهر البرص وأيضاً يقول عنه صحيح البخاري "لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم المسيح أبن مريم حكماً مقصفاً." جزء 2 صفحة 458.

 

وأين هو الآن؟ إنه حي في السماء منذ ألفي عام وإلى قيام الساعة . . لا . . إنه غير البشر . . إنه أعظم بكثير . . ولكن من هو؟ لا أستطيع أن أكتم ما بداخلي . . أريد الحقيقة ودار بداخلي صراع بين شعوري القوي بأن هناك حاجز بيني وبين الله يجعلني أسلك في طريق خاطئ، وبين إصراري العجيب أن أصل إلى الحقيقة.

 

مرت أيام طويلة وثقيلة حتى انتهى عام 1987 وبدأ عام 1988، وبدأ أقباط مصر يحتفلون بعيد الميلاد ورجعت أسأل نفسي، عيد الميلاد!! عيد ميلاد من؟ ميلاد المسيح . . من هو المسيح؟

وجاء اليوم السابع من يناير 1988 وكان يوم عطلة لجميع مسيحيي المدرسة. وعدت من المدرسة حزينة، خائفة، وكان الجو شديد البرودة وكنت أنام في غرفة ابنتاي، ونام الجميع إلا أنا. كنت قلقة!! . . لابد أن أكون صادقة مع نفسي!! لماذا أنا خائفة؟ أليس الله أحق أن أخاف منه . .! وكيف أقول أني أحب الله أكثر من نفسي وأنا لا أريد الحقيقة . .! ألا يستطيع الله أن يحميني وأن يدافع عني؟ وتوجهت إلى الله بكل صدق، وصرخت إليه وكأنه جالس أمامي: يا رب أنت تعلم كم أحبك، وأخاف منك، وكم أرجو لقياك بغير ذنوب . . أرجوك يا رب عرفني الحقيقة! كيف اصل إليك؟ ثم أعود أقول ما ذنبي يا ربي . . أنا ولدت في عائلة مسلمة، هل ستحاسبني . . أشعر بخوف شديد . . لا يا ربي أرجوك . . أنت وهبتني نعمة عظيمة منذ صغري، كلما سألتك أجبتني في رؤيا، أرجوك لا تحرمني من هذه الهبة العظيمة، أرجوك يا رب إذا كانت المسيحية هي الطريق إليك يكفيني أن أرى صليباً، أما إذا كان الإسلام هو الطريق أرني أية علامة وأعدك يا ربي أني سوف أنفذ كل ما تطلب مني، لا يهمني أحد غيرك  . . لن أخاف من أحد . . ليفعلوا بي ما يفعلوا، المهم في النهاية هو أنت . . لا يهمني مركزي، المهم هو مركزي عندك . . لا يهم أولادي . . أنت أولاً . . أنت ترعاهم . . وإن قتلوني فإنهم يقصرون الطريق إليك . . لم أكن في حياتي كلها صادقة مثل ما كنت في تلك الليلة . . ولم أشعر أيضاً أني قريبة من الله مثل ما شعرت تلك الليلة، إني أشعر وكأني جالسة أمام الله أكلمه . . وكنت تارة أبكي . . وتارة أتذلل إليه . . وتارة أعاتبه بشدة. وظللت على هذه الحال حتى الثالثة صباحاً. شعرت إني متعبة ومرهقة ودارت رأسي فوضعت المنبه إلى جواري لاستيقظ في السادسة صباحاً، ومددت جسمي المنهك على السرير، وأغمضت عيني وشعرت بدوخة ولكني لم أنم!! وفجأة وجدتني أرتدي فستاناً لونه رمادي مغشى بالفضة، طويل إلى الأرض، وأكمامه طويلة، وفي وسطي حزام عريض بنفس اللون، وعلى رأسي طرحة بنفس اللون، وأنا سعيدة جداً بهذا الفستان، وأسأل نفسي من أين لي هذا الفستان الجميل، إني لم أره من قبل، لم أر مثله في حياتي، يا للعجب! ونظرت لأسفل وإذ بي حافية القدمين . .! كيف أكون بهذه الأناقة وحافية القدمين . . ولكني لم أبال . . قلت أن الفستان طويل للأرض وهو يغطي قدمي ووقعت قدمي ووقعت عيني على الأرض وكانت مفاجأة . . ما هذا اللون الجميل . . أنه أخضر حقيقي . . لم أر مثل هذا اللون العجيب من قبل، وما هذا الملمس الناعم، وظللت أحرك قدمي على الأرض لعلي أعرف ما هذا الملمس! نجيله ناعمة . . أم سجاد . . لا إنها حرير . . ورفعت رأسي لأرى ما يعجز اللسان عن وصفه، أنه يشبه القصور التي في الخيال . . لا إنه أعظم من الخيال . . إنه ما لا يصل إليه خيال . . إنه مكان واسع به أعمدة عالية لا تستطيع العين أن تصل إلى نهايتها . . ومبطنة بحرير لامع يضوي بأضواء عجيبة . . ورائحة البخور . . إني أعرف تلك الرائحة، إنها مثل الرائحة التي ظهرت مع سامية ولكن أزكى منها . . وإذ بنسمة هواء باردة منعشة تسري في جسدي وتشعرني براحة عجيبة، وكأن طيور ترفرف فوق رأسي ولكني لا أراها بل أشعر بها فقط . . هدوء وسعادة وراحة تسري بجسدي مع تلك النسمة . . رحت أتمشى وأتفقد المكان، وإذ بي أمام كرسي عال وعظيم، لا يجلس عليه أحد، ومن خلفه شبه قبة الكنيسة . . رحت أتمشى وأتمشى وأتمتع بكل ما في المكان، حتى رأيت رجالاً كبار السن واقفين على هيئة قوس، كأنهم في شرف استقبال . . وكانوا يرتدون ملابساً بيضاء ناصعة البياض وعلى رؤوسهم غطاء أبيض به أشياء تضوي، ولحيتهم البيضاء الناصعة تتدلى، . . وكانوا يهمسون وهم يقولون شيئاً، حاولت أن اقترب منهم لعلي أفهم ما يقولون . . لكني لم أفهم . . فتركتهم ورحت أتمتع بما أرى . . أن عيني تعجز عن احتواء المكان أو حتى الوصول إلى نهايته . .

 

فجأة دخل شخص، لا أعرف من أين دخل أو كيف دخل . . ووجدت هؤلاء الرجال يسجدون له وسار في اتجاه الكرسي العظيم العالي . . لم يسر بخطوات على الأرض . . لا إنه سار وكأنه محمول على السحاب أو كطيف، حتى وصل إلى الكرسي وجلس عليه . . ويا للعجب أني أسير خلفه . . دون أن أفكر ودون إرادتي . . إني أتبعه . . سجدت عند قدميه يغمرني شعور عجيب . . إنه مزيج من الفرح والخوف . . سعادة . . هدوء . . سلام عجيب، مع رعدة شديدة تسري في جسدي، وكأنها تيار كهرباء . . لا أستطيع السيطرة على جسدي . . إنه يرتعد بشدة . . سألت نفسي، ما هذا الشعور العجيب؟ ومن هذا الذي أسجد له أنا وكل هؤلاء الرجال؟ لابد أن أرفع رأسي وأنظر إليه . . لأرى من هو؟ وجاهدت حتى استجمعت قواي ونظرت إليه . . يا إلهي ما هذا الذي أراه؟ إن لساني يعجز عن وصفه!! لن أجد الكلمات المناسبة لوصفه . . ما هذا الوجه المضيء؟ وما هذه البشرة البلورية؟ ما هذا الجمال؟ إنه يبدو متعباً . . مرهقاً . . حزيناً . . يرتدي ثوباً لونه فاتح، وعلى كتفه الأيسر شال قرمزي داكن اللون، وبدى شعره الأصفر المنسدل حتى كتفيه كقطعة من القطيفة!!

 

وما كل هذا الحزن؟ إنه مغمض العينين ويضع كلتا يديه على ركبتيه ورأسه مطأطئ إلى أسفل، إن العين لا تمل النظر إليه . . إنه يبدو وكأنه كان يتفقد شيئاً ما، وهو غير راض . . بل بالعكس . . إنه حزين . . ورجعت أسأل نفسي مرة أخرى . . من يكون هذا العظيم؟ أهو ملك؟ لا لم أر ملكاً بهذا الجمال . .! ومن يستطيع أن يغضب هذا العظيم؟ ورحت أحدق في وجهه الجميل المضيء المريح . . وإلى رقبته . . إنها كعامود بلور نقي . . وإلى بشرته الناصعة البياض . . وإلى وجهه المضيء كلما نظرت إليه كلما ازددت تعلقاً به، وازددت شوقاً إلى معرفته أكثر وأكثر ومعرفة من هو؟ وفجأة فتح عينيه ونظر إلي . . لم أحتمل نظرة عينيه فسقطت على وجهي . . يا إلهي!! من أرى!! ما هذه العينين؟ إني أشعر أني سوف أموت أو يغشى علي مما رأيت . . إن عينيه واسعتين يخرج منهما شعاع قوي كأشعة الشمس وحدقتا عينيه كبيرتان وكأن الكرة الأرضية كلها في حدقتي عينيه ولونهما عجيب أزرق صافي، كالسماء الصافية أو المياه النقية، يميل إلى الخضار . . وما هذه الأشعة التي وقعت علي من عينيه، إنها تسري في جسدي مثل الكهرباء . . لم احتمل النظر إليه للحظة . . كلي شوق إليه . . لقد أحببته. أريد أن أنظر إليه . . وجمعت قوتي . . لابد أن أنظر إليه مرة أخرى . . نعم ورفعت رأسي ونظرت إليه . . يا للعجب أنه ينظر إلي . . أنه يقترب بوجهه مني . . لكن ما هذه النظرة . . كله حب وحنان ورقة . . قال وهو يستعطفني بصوت هادئ "خلاص يا ناهد" سقطت على وجهي . . لم أستطيع أن أتحمل كل هذا الحب وكل هذا الحنان وكل هذه الرقة!! لا لن أجد الكلمات المناسبة لوصف ما أرى . . ولكن من أنا حتى يستعطفني هذا العظيم بهذه الطريقة، إنه أشد حناناً من الأم الرؤوم على ابنها القاسي . . وهذا العظيم يعرف اسمي؟! ويناديني باسمي . . إنه يعرفني جيداً ولكن ماذا يقصد بكلمة خلاص أنا لا أفهم قصده؟ هل أسأله؟ لا هذا لا يسأل أنه يطاع فقط، دار هذا الحديث بسرعة بيني وبين نفسي ولكن علي الآن أن أجيبه بسرعة، فقلت وأنا لا أستطيع السيطرة على نفسي "أيوه خلاص . . خلاص" كلي شوق إليه، علي أن أجمع قوتي وأنظر إليه مرة ثانية، وبالفعل رفعت رأسي لأنظر إليه، أنه يقترب مني أكثر وينظر إلي . . بنفس الحب والحنان والرقة يستعطفني مرة ثانية ويقول "متأكدة يا ناهد" إن الأشعة الخارجة من عينيه تسري في جسدي وكأنه يرى أعماقي . . وللمرة الثانية أسقط بين قدميه، لم أرى في حياتي كلها مثل هذا الحب والحنان والطيبة، ولكن كل هذا لي أنا!! من أنا حتى يعطيني كل هذا؟ وأيضاً سألت نفسي . . متأكدة من ماذا؟ أنا لا أفهم ما يقصد ولكن علي أن أطيعه، لا أجرؤ أن أسأله أجبته دون أن أرفع رأسي "أيوه متأكدة . . متأكدة" أحبه لأني أشعر بحب لا مثيل له . . وللمرة الثالثة أستجمع قواي و أرفع رأسي لأنظر إليه، ورغم الخوف الذي يتملكني . . وجسدي الذي يرتعد بشدة ولا أستطيع السيطرة عليه، لكن هناك راحة وسلام وسعادة تغمرني. نظرت إليه، يا للعجب أنه يقترب مني أكثر وأكثر . . نفس النظرة ونفس الصوت الهادي ويقول "يعني أطمئن يا ناهد" يا إلهي هذا العظيم يريد أن يطمئن مني أنا؟ ولكن على أي شيء يريد أن يطمئن؟ لابد أن أطيعه وبنفس الطريقة جاوبته وأنا لا أفهم ما يقصد "أيوه أطمئن . . أطمئن" ثم أضاف "انظري ليّ " قلت له "موش قادرة" قال بكل تأكيد " لا تخافي . . انظري لي" وعندما سمعت كلمة لا تخافي زال مني الخوف في الحال . . رفعت رأسي ومكثت أحدق في وجهه الجميل الذي يعجز اللسان عن وصفه . . لاحظت أن الأشعة القوية الخارجة من عينيه أصبحت محتملة وكأن عيناه تضيئان بأنوار. ما هذا يا إلهي؟ حب . . حنان . . رقة . . طيبة . . نقاء . . براءة، لن أجد الكلمات المناسبة لأعبر بها عما أرى.

 

ومرت لحظات . . لا أمل من النظر إليه . . وكلما نظرت إليه ازددت شوقاً إليه، ثم قال في هدوء: "ماذا ترين" وشعرت أنه يريد أن يختبرني! فسكت لحظة أفكر ثم قلت له "أرى منظر طفل،" وفي الحال زالت علامات الحزن، لكنه لم يبتسم ثم رأيت الدموع تنهمر من عينيه وكأنها سيل. لا ليس سيل فقط إنما نهر يجري على خديه إلى ملابسه . . وبكيت بشدة معه، وظل جسدي يرتعش بقوة لدرجة كبيرة، مع أني في قرارة نفسي أشعر أني سعيدة وأن إجابتي صحيحة وأنه راض عني . . ومرت لحظات . . أفقت على جسدي يرتطم بالسرير . . فتحت عيني . . أين أنا؟ وأين هو؟ أين ما كنت أرتدي؟ ومرت فترة وكأني فاقدة الذاكرة . . أرفض الواقع . . أريد أن أعود إلى ما كنت فيه . . أشعر بمرارة . . أريد أن أعود إليه ساعدني يا ربي أن أحتمل غربتي على الأرض بعيدة عنك دون أن أراك، أحبك من كل كياني، أحبك من أعماق قلبي أشعرتني أنك تحبني حباً لم أر مثله في حياتي. إن الأشعة الخارجة من عينيه صهرت جسدي وأبدلته بآخر . . وكان في كل مرة يكلمني يهز رأسه في استعطاف، وعيناه المضيئتان ترسمان دوائر من نور . . إنها أمامي لا زلت أراها . . وأيضاً صوته الهادئ الحنون في أذني لا أستطيع أن احتمل!! إنه فوق كل عقل وخيال أو تصور، إنه مزيج عجيب رغم كل الرقة والحنان والحب والطيبة، بدى في منتهى القوة، إنه عجيب!! لا أستطيع وصفه، وبعد أن هدأت قليلاً أيقظت ابنتي، إنها نائمة إلى جواري ومن قوة الرؤيا ظننت أنها رأت معي ما رأيت، وسألتها في لهفة "هل رأيت من كان يكلمني؟" ولاحظت علامات الدهشة على وجهها . . وقالت في هدوء "اهدي يا ماما . . من كان يكلمك؟" . . وصفته لها فقالت "هذا وصف ملاك، لابد أنه ملاك" ولم تقنعني أجابتها . . لا . . إني أعرفه جيداً، أعرف من هو، وأعرف ما يقصد بهذه الكلمات، وتركتها وخرجت من الحجرة وذهبت نحو غرفة ابني . . رويت له كل ما حدث وسألته نفس السؤال وبدت عليه نفس علامات الدهشة، إنه لم يرني من قبل بهذه الحالة وقال في هدوء "اهدي يا ماما لابد أنه ملاك، إنه وصف ملاك" ولكن لا . . أنا أعرف من هو . . ولكني لم أستطيع أن اصدق نفسي، وبعد فترة استيقظ زوجي من نومه على صوتي، وسألته هو أيضاً فرد قائلاً "ربما يوسف أن له نفس الأوصاف" ولكن . . لا ليس يوسف الصديق . . اعرف من هو ولكن من عظم المفاجأة أريد أن يؤكد لي أحد. ارتديت ملابسي بسرعة ونزلت اجري إلى المدرسة، إني أكاد أن أطير، لا أشعر بخطواتي على الأرض، يملكني شعور غريب كأني من عالم آخر، أنا غريبة في هذا العالم، إن ما رأيت وسمعت أعظم من أن يتحمله بشر.

 

دخلت حجرة سامية وسألتها بلهفة: من له هذه الأوصاف؟ وبدأت أصف لها وأشرح لها كل ما حدث وأنا لا أستطيع أن أتمالك نفسي من شد البكاء، ولا أستطيع السيطرة على جسدي . . إني أرتعد بقوة، فمنذ بدأت أروي لها ما حدث وكأني أعيشه مرة ثانية، إني أرى عينيه تضيئان بأنوار أمامي، وأسمع صوته الحنون الهادئ في أذني. وبعد أن انتهيت بدت على سامية علامات الدهشة والذهول وقالت "سوف أعرض عليك مجموعة من الصور وعليك أن تتعرفي على صورته،" فتحت حقيبة يدها وأخرجت مجموعة كبيرة من الصور وأعطتها لي، نظرت إلى الصور واحدة بعد الأخرى وبسرعة التقطت صورة الحبيب من بين الصور وقلت لها "هذه الصورة له، ولكنه أبدع بكثير منها" ولم انتظر إجابة سامية فمن نظرتها لي عرفت أنه هو . . لم تستطع هي أن تجيبني من هو وقالت "سوف أسأل أبونا أولاً وبعد ذلك أجاوبك."

 

تركتها وتوجهت إلى مكتبي وتذكرت الأستاذ مفيد، إنه مدرس علوم بالمدرسة لابد أنه جالس في مكتبي وينتظرني كعادته، منذ عامين ويلازمني كظلي رغم كل ما بدى مني ضد مسيحيي المدرسة، أجده يتفانى في خدمتي ومساعدتي، لقد تحمل مني الكثير. تطاولي عليه، تصرفاتي السيئة، خروجي عن حدود الأدب مع كل المسيحيين، بل بالعكس كان يرد على أسائلتي بكل إحسان، لم استطع يوماً أن أفقده سلامه أو هدوءه.

 

دخلت مكتبي وإذ به جالس بجوار مكتبي يقرأ في الجريدة اليومية كعادته وحينما نظر إلى أسرع قائلاً "ما بك." جلست إلى مكتبي وأنا أشعر أني أكاد أن أسقط على الأرض . . قلت له "مفيد لقد رأيت رؤية عجيبة أريد أن أخبرك بها" قال في لهفة "قولي كل شيء بالتفصيل" وبدأت أروي له كل ما رأيت وبالتفصيل وكنت لا أستطيع السيطرة على نفسي من شدة البكاء، وبدأت علامات الذهول على وجه مفيد. وبعد أن انتهيت قال "أرجوك سامحيني أعيدي مرة أخرى ما قلتيه" وكررت مرة ثانية، وإذ به يريدني أن اكرر للمرة الثالثة، كررت له، وشعرت أن مفيد يرى ما رأيت وأنا أروي له، رفع رأسه لأعلى وقال "أشكرك يا رب" وأضاف في هدوء قائلاً "أتريدين فعلاً أن تعرفي من هو؟" قلت له بكل ثقة "نعم، طبعاً" قال بهدوء "إنه المسيح." رغم إني أعرف أنه هو، ورغم أني متأكدة أنه هو . . فوجئت بهذا النبأ. وانهرت تماماً وأخذت أبكي بشدة وأرتعد، حاول مفيد تهدئتي ولكن دون جدوى، خرج من حجرتي وأغلق خلفه الباب وتركني وحدي. لا أعرف كم مضى من الوقت وأنا في هذه الحالة، لكني كنت أشعر به من حين لآخر يفتح الباب وينظر كيف حالي، حتى هدأت . . دخل حجرتي مرة أخرى وجلس بجواري، التفت إليه وقلت "من أنا حتى أرى المسيح؟ ومن أنا حتى يكلمني بهذه الطريقة؟ إنه يستعطفني بكل حب وحنان ورقة؟ وماذا يعني بخلاص يا ناهد . . متأكدة يا ناهد . . أطمئن يا ناهد؟ أكاد أن أفقد عقلي! كل هذا الحب لي أنا؟ كل هذا الحنان لا أستطيع أن أصدق نفسي أنا لم أكن نائمة أنا كنت مستيقظة، أنا لم أكن في منزلي أو سريري . . لا . . لقد كنت في مكان آخر. لساني يعجز عن وصف ما رأيت . . لا توجد الكلمات المناسبة" . . رد علي قائلاً "نعم نحن لا نستحق شيئاً ولكنه لا يعطينا حسب استحقاقنا إنه يعطي من غنى مجده." قلت له "إني أخجل من نفسي . . يا لذنوبي! أريد أن أنسحق في التراب ندماً على ما فات من عمري دون أن أعرفه، إن ذنوبي كجبل على أكتافي ، ورغم كل هذه الذنوب يقابلني بهذا الحب؟" أجابني بكل هدوء "إنه يحب الخطاة، وعندما يتوبوا، هو يقول أنسى كل خطاياكم ولا أعود أذكرها . . إنه السيد المسيح إلهنا الطيب" قلت له "ماذا يجب علي أن أفعل الآن" قاطعني قائلاً "لا شيء، اصبري وهو سوف يكمل عمله معك ويرشدك ولكن اهدئي وحاولي أن تكوني طبيعية" وتركني وانصرف.

مرت أيام وأنا أواصل الليل بالنهار، لا أرى غير عينيه المضيئتين، ولا اسمع غير صوته الحنون، يا لعظم محبتك لنا نحن الخطاة. وفي أحد الأيام كنت أكلم إلهي الحبيب وسألته "إلهي . . إني أخجل من نفسي . . لماذا كل هذه البركة والنعمة. لا أستطيع أن أرفع رأسي أمامك خجلاً من ذنوبي . . أرشدني يا رب ماذا أفعل؟ أكاد أن أذوب انسحاقاً واشتياقاً إليك . . أعن ضعفي . . ساعدني أن أتحمل، ولكن لماذا أنا . . من أنا حتى ألقاك وتنعم علي بكل هذا؟" وفي الحال جاء رد الحبيب "أنت لك رسالة" يا للعجب!! ولم أصدق ما سمعت وكررت مرة أخرى "لماذا" ورد علي مرة ثانية "أنت لك رسالة" صرخت "أنا يا ربي" وللمرة الثالثة "أنت لك رسالة . . اهدئي واطمئني . . ولا تستعجلي . . لكي لا تضيعي كل شيء."

 

وسادني سلام وهدوء وقلت للرب "إلهي أنا ملك لك، لتكن إرادتك لا إرادتي، سلمتك نفسي لتفعل بي ما تشاء، لا أريد غير وجهك الحبيب، عرفت من اللحظة الأولى كم يحبني، ليتني أستطيع أن أحبك بالقدر الكافي، أي شرف وعزة وكرامة أن يستخدمني الرب، ساعدني يا ربي وقوني أن أكون على الصورة التي ترضاها . . سامحني واغفر لي . . تفضل يا ربي وتربع على عرش قلبي بلا شريك . . أنا لك وسأظل لك ما دمت حية ولكن أرجوك احفظني فيك إلى النفس الأخير."

 

وهكذا أصبحت "ناهد" بعد لقاء رب المجد. كل العالم لا شيء . .

لا يوجد على الأرض شيء يساوي نقطة من دموع الحبيب . .

معه لا أريد شيئاً . . فيه الحب والسلام والأمان

فيه الشبع . . نعم كل الشبع

 

عمل الرب العجيب

 

مرت أيام كثيرة، لا أعرف كيف مرت؟ وكل يوم يمر يزداد شوقي إلى الحبيب . . وإلى معرفته جيداً ومعرفة ما هي المسيحية؟ وإلى قراءة الكتاب المقدس، أريد أن أذهب إلى الكنيسة لأصلي، أريد أن أقابل أب كاهن ولكن كيف، لابد أن جميع الأباء سوف يرفضون لقائي، لقد كنت بالأمس مصدر شكوى المسيحيين، طالبات ومدرسات ومدرسين، واليوم أنا مسيحية. وعدت أسأل سامية "أريد أن أقابل أبونا يا سامية، وأريد كتاب مقدس أقرأ فيه" أجابتني سامية في هدوء "لقد أخبرت "أبونا" بكل ما حدث وهو موافق أن يقابلك، ولكن أعطيه فرصة ليرتب هذا اللقاء، أما عن الكتاب المقدس فدعيني أسألك أولاً أين سوف تقرأينه؟ في المدرسة ومكتبك به حركة دائمة . . أم في منزل زوجك وأولادك؟ تذكرت في الحال شقتي . . نعم شقتي الخاصة، فهمت الآن لماذا استأجرت هذه الشقة؟ ورحت استرجع الأحداث، توفى والدي وكان لواء شرطة وكان يمتلك شقة كبيرة في عمارات ضباط الشرطة في العباسية، واختلفنا من يأخذ الشقة. واستقر الرأي على بيعها، وبالفعل بيعت الشقة وحصلت على نصيبي من ثمن بيعها، ووجدتني مندفعة لكي استأجر شقة خاصة بي، حاول أولادي منعي بحجة أن سيارتي صغيرة ويجب أن استبدلها بأخرى كبيرة، لكني رفضت وأصررت إصراراً عجيباً أن أستأجر شقة خاصة بي، كان المبلغ متواضعاً، سبعة آلاف جنيه، وبالتالي ستكون الشقة في منطقة متواضعة ولكني لم يهمني أين ستكون الشقة، المهم أن تكون لي شقتي الخاصة، وبالفعل استأجرت الشقة وكتبت العقد في نهاية عام 1986 واستلمتها في يناير 1987. ظلت الشقة خالية تماماً حتى اليوم وكنت من حين لآخر اشتري إحدى الأجهزة المنزلية الحديثة وأضعها في الشقة . . فمرة غسالة جديدة، ثم ثلاجة، بوتاجاز، سخان . . حتى استطعت أن أوفر كل الضروريات، والآن علي أن اتخذ قراراً هاماً، يجب أن انتقل إلى شقتي! ولكن كيف؟ إنه قرار صعب، ليساعدني الله ويقويني.

 

وفي صباح أحد الأيام وأنا ذاهبة إلى مدرستي . . وبينما كنت أعبر الشارع إذ بي أسمع صوت فرملة قوية، إنها سيارة كادت أن تصدمني وتوقف المارة ليروا ما حدث، ونزل سائق السيارة وأخذ يوجه لي بعض الشتائم، إني أنظر إليه ولا أعي تماماً ما حدث أو لماذا يوجه لي كل هذه الشتائم، أنا من عالم آخر، لا أشعر بخطواتي على الأرض ولا أرى غير تلك العينين المضيئتين، لا أسمع غير صوته الدافئ الحنون وما هو فوق العقل أن يكلفني الله برسالة!! لم أرد على أحد بكلمة.

 

واصلت سيري نحو المدرسة وبعد أول خطوة أخطوها يا للعجب أسمع صوتاً قوياً يقول "قولي بسم الآب والابن والروح القدس" لم أفهم من يقول هذه الكلمات، ومن أين هذا الصوت؟ قلت "ماذا؟" قال مرة ثانية "قولي بسم الآب والابن والروح القدس" قلت في ذهول "ماذا؟" كرر نفس الصوت للمرة الثالثة، نظرت حولي ربما جميع الناس يسمعون نفس الصوت ولكن لا، كل من في الشارع يسيرون في حركة طبيعية. عرفت أن هذا الصوت لي أنا، شعرت إني لا أقوى على الوقوف ولا أستطيع السيطرة على جسدي . . إني أرتعد بشدة ودخلت إلى المدرسة مسرعة كي لا أقع في الشارع، وتوجهت على الفور إلى حجرة سامية، فوجئت بي سامية وأنا في هذه الحالة فأسرعت نحوي أجلستني ثم قالت "أنت من كانت السيارة سوف تصدمها" قلت لها "المشكلة ليست في السيارة، المشكلة فيما سمعت الآن" قالت "ماذا سمعت" وجدت شيئاً ممسكاً بيدي ومن رأسي إلى وسطي ثم من الكتف الأيسر إلى الأيمن وأنا أقول "بسم الآب والابن والروح القدس" بدت علامات الدهشة على سامية وقالت وهي ترسم الصليب "من علمك هذا" قلت لها "إن هذه الكلمات سمعتها الآن بعد أن كادت السيارة تقتلني، أما حركة يدي . . إنه شيء أمسك بيدي وعلمني أن أرسم علامة الصليب بهذه الطريقة" قالت سامية "أكمليها إله واحد آمين" قلت لها "وماذا تعني هذه الكلمات" قالت "الله نزل من السماء في صورة ابنه الوحيد الذي به انتقلنا من اليسار إلى اليمين أي من الظلمة إلى النور" ثم سكتت قليلاً وأضافت "عندما تكوني قلقة . . عندما تكوني خائفة . . عند استيقاظك صباحاً قبل أن تنامي في دخولك وخروجك كرري ما علمك الرب اليوم إنه يعطيك حسب شوق قلبك . . ولكن أحذري من أن يراك أحد."

 

يا لسعادتي . . يا لعملك العظيم أيها الرب الإله القدير، إني محظوظة بحبك، أنت تعلمني بنفسك . .! أشكرك يا رب، لو مكثت الباقي من عمري ساجدة بين قدميك، لن أوفيك ولو جزءاً قليلاً . . ولكن أنت تعطي بسخاء، وتوجهت إلى مكتبي . . وجدت مفيد جالساً يقرأ الجريدة اليومية كالعادة فقلت له في هدوء "بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين" ورسمت الصليب كما علمني القدير، ابتسم مفيد قائلاً "ألم أقل لك أن الله سوف يرشدك ويعلمك، أشكرك يا رب، اشكري الله دائماً، أنا الآن مطمئن عليك، أنت الآن في يد أمينة . . يد إلهنا الحبيب" جلست إلى مكتبي بجوار مفيد وأخرجت من حقيبتي علبة السجائر . . كنت أدخن بجنون، ووضعت سيجارة في فمي، وقبل أن أشعل الثقاب نظر إلى مفيد وقال في أدب "لا داعي أن تشعليها . . ليس لها أي ضرورة الآن" شعرت بالخجل من نفسي ونزعت بسرعة السيجارة التي كانت بين شفتي وألقيت بها وعلبة السجائر في سلة المهملات، وعاهدت الله ألا أعود إلى التدخين مرة أخرى أبداً . . أبداً . . كنت صادقة في عهدي ولذلك ساعدني الله، ولم أشعر بأي رغبة في التدخين منذ ذلك الحين.

 

مرت أيام جميلة سعيدة يشملني الحبيب بحبه وعنايته ورعايته، التي تفوق كل عقل وخيال وأشعر أن ذراعي الحبيب يحيطاني . . إلهي كنت أحبك ولكني كنت بعيدة عنك ولا أعرف الطريق إليك . . كان هناك حاجز بيني وبينك. رحت أبحث عنك في كل مكان . . ولكني الآن وجدتك . . أنت أقرب إلي من نفسي . . وجدتك ساكن في أعماقي . . لا أستطيع أن أقول أحبك . . لأني لو قلت أحبك فمعنى هذا أنك منفصل عني . . لكن أقول أنا فيك وأنت فيّ، كنت أخاف منك وأخاف يوم لقائك ولكني الآن أكاد أذوب اشتياقاً إليك وإلى يوم أن تنهي غربتي . . إن السعادة الحقيقية معك.

 

انفردت بالحبيب في إحدى الليالي، جلست أشتكي إليه مرضي والصداع الدائم الذي أعاني منه منذ فترة طويلة، وهو ناتج عن ارتفاع ضغط الدم فقط وصل ضغط دمي إلى 200/110، أمرني الطبيب ألا أغادر فراشي وإلا أكون معرضة أما إلى انفجار في أحد شرايين المخ أو أزمة قلبية. ولكني لا أحتمل البقاء في الفراش ورفعت قلبي إلى ربي الحنون "إلهي أريد لمسة يدك الحنونة فليس لي شفاء إلا من عندك أنت، أنت الإله القدير، اشفني يا حبيب." وفي الحال شعرت أن شيئاً مر على جبهتي وأزال الصداع. أضأت النور لكي أرى ما هذا الذي مر على جبهتي ولكني لم أجد شيئاً، وفي نفس الوقت عرفت ما حدث . . إن إلهنا الطيب الحنون تحنن علي ولمسني بيده الكريمة. سري في جسدي تيار هادئ ملأني بالسلام والهدوء ولأول مرة منذ لقائي مع رب المجد أشعر برغبة في النوم، شكرت الله وسألته أن يعطيني نوماً هادئاً، وفي الحال استغرقت في نوع عميق.

 

رأيت في تلك الليلة أني واقفة في حجرة صغيرة مفروشة بالسجاد، وبها حوض ماء كبير وعميق، مملوء ماء، والعجيب إني لا أرتدي سوى روب وحافية القدمين. كنت أعرف أني في كنيسة ولكن كيف أكون في كنيسة، ولأول مرة في حياتي، وأنا لا ارتدي سوى هذا الروب؟ وما هذا المنظر العجيب الذي أراه لأول مرة؟ لم أر في حياتي من قبل مثل هذا الحوض الكبير العميق . . فوجئت بمن يفتح باب الغرفة التي أقف فيها . . ولكني من شدة الخجل لم أقو على النظر إليه . . أمسكت الروب بيدي ونظرت إلى أسفل، وقف أمامي ومد يده البيضاء الناصعة البياض، وأخذ يعمل علامات في جسدي . . حاولت أن أقاومه . . ولكن كيف أقاوم ربي وحبيبي . . استسلمت له حتى انتهى من مسح جسدي بالعلامات، ثم تركني وخرج من الحجرة تاركاً وراءه الباب مفتوحاً، سرت وراءه وخرجت من الباب . . لأجد حوالي عشر أو أثنى عشر قساً يرتدون ملابسهم السوداء، بعضهم ممسك بشموع مضاءة ويرنمون بألحان عجيبة لم أسمعها من قبل أو أفهم معناها، سرت أمامهم وهم خلفي وكأني عروس أزف، سرت في ممر طويل ثم صعدت درجتين . . درت حول شيء أشبه بمنضدة وعليها مفرش أبيض جميل وهم يسيرون خلفي ويرددون تلك الألحان الجميلة . . نزلت إلى الممر وأوصلوني إلى باب الكنيسة وخرجت من الكنيسة. عندما استيقظت من نومي رحت استرجع ما رأيت مرة أخرى وأنا أكاد أن أجن من شدة الخجل، ما هذا الذي رأيت!! أول مرة أدخل كنيسة، أدخلها وأنا بهذا الروب فقط . . وما معنى هذه العلامات؟ وكلما لمست مكان العلامات أجد زيتاً . .! أسرعت إلى المدرسة لكي اسأل سامية ما هذا؟ ما الذي حدث ليلة أمس؟ جلست أمام سامية وأنا لا أستطيع النظر إليها من شدة الخجل ورحت أقص عليها ما رأيت، ولكني فوجئت بها تصرخ من شدة الفرح وقالت: هل نزلت في حوض الماء؟ قلت لها "لا . . لماذا؟" قالت "إنها المعمودية . . بقى لك أن تغطسي في الماء وتكوني قد اعتمدت." وأخذت تشرح لي ما هي المعمودية وما أهميتها وكيف أن كل مسيحي لابد أن يعتمد.

 

لم أكن أدري أن لمسات ربي وحبيبي الحانية قد شفتني من داء عضال وأمراض مستعصية.

 

كم أنا محظوظة بحبك يا الله . . إنك تعلمني بنفسك كل شيء، إلهي أنت تشملني برعايتك، وكأني وحدي موضع اهتمامك . . إلهي أنت تحيطني بحبك، وكأني وحدي منفردة بهذا الحب. إلهي أنت ترعاني، وكأنه لا يوجد على الأرض من ترعاه سواي. أشكرك يا إلهي الحنون.

 

وعدتني سامية أن تقص على أبونا كل ما حدث وأن تحدد لي موعداً لألقاه. تركت سامية وذهبت إلى مكتبي لأجد مفيد جالساً بجوار مكتبي ينتظرني، عندما دخلت إلى حجرة مكتبي نظر إلي، وكأنه رأى على وجهي كل شيء فابتسم وقال في صوت هادئ "قولي بسرعة ما سبب هذه الفرحة المرسومة على وجهك." جلست إلى جواره ورحت أروي له كل ما رأيت، وهو يمجد الله ويشكره إلى أن انتهيت من كلامي، رفع وجهه ونظر إلي وهو يقول "أشكرك يا رب، أعرف أنك أنت هو أمساً واليوم وإلى الأبد، وإلى دهر الدهور لك المجد الدائم آمين . . لقد اختارك الرب لكي تكوني شاهدة له، وأثق في إلهنا القدير، إنه سوف يحافظ عليك ويرعاك وأنه لابد أن يكمل عمله فيك . . أشكريه دائماً ومجديه."

 

جاء موعدي مع الطبيب المعالج، ذهبت إليه مع أني لا أشعر بأي ألم أو صداع وسألني "هل لازمت الفراش كما اتفقنا؟" قلت له "لا يا دكتور" قال في تعجب "هل تريدين أن تموتي؟" قلت له "لا يا دكتور . . أرجوك افحصني أولاً ثم قل ما تشاء." وقام بقياس الضغط وكانت المفاجأة، لا يوجد أي أثر لإرتفاع ضغط الدم، لم يصدق ما يرى. أحضر جهازاً آخراً خشية أن يكون الجهاز الأول لا يعمل، ولكن نفس النتيجة . . لم يعلق بكلمة واحدة وأخذ يحدق فيّ. نعم لقد شفاني القدير بلمسة من يده الكريمة، لم أعد أحتاج إلى سواك.

 

مرت أيام وأنا متمتعة بعناية ورعاية إلهنا الطيب، فما أجمل الحياة مع الحبيب، ولكن كنت أزداد شوقاً إلى معرفة المزيد عن السيد المسيح، وعن الكتاب المقدس. وفي صباح اليوم التالي دخلت سامية إلى حجرة مكتبي وهمست في أذني "لقد وافق أبونا أن يقابلك." . . صرخت من شدة الفرح "سوف أقابله في الكنيسة!" قالت "لا . . في منزلنا، إن أبي مريض وقرر أبونا أن يزوره ليصلي من أجله وأنت تحضري أيضاً وتلتقي به،" قلت لها في لهفة "متى؟" قالت "غداً الأحد . . بعد القداس" كدت أطير من الفرح، عدت إلى منزلي أعد الدقائق الباقية، غداً سأقابل "أبونا" لأول مرة، نعم لقد قابلت آباء قبل ذلك عدة مرات، ولكن لقاء الغد مختلف تماماً، أنا بنعمة الله إنسانة جديدة. جاء المساء، ذهبت إلى فراشي مبكرة لعل الغد يأتي سريعاً، رأيت في هذه الليلة شخصاً يدعوني إلى زيارة دير في وسط الصحراء، يحيط به الرمل من كل جانب رمال لا نهاية لها، وللدير بوابة كبيرة معدنية تتحرك على مزلاج، وعلى البوابة ثلاث قباب، احداها كبيرة في الوسط وعليها صليب كبير، واثنتين صغيرتين على جانبي القبة الكبيرة. اقتربت إلى البوابة أنا ومن دعاني ففتحها شخص يرتدي جلباباً أسود وعلى رأسه غطاء به صلبان صغيرة، بعد أن عبرنا البوابة، دخلنا إلى ممر طويل محاط بالأشجار حتى وصلنا إلى نهايته، لنجد كنيسة جديدة ومن خلفها اخرى قديمة، دخلنا الكنيسة القديمة فرأيت أجساداً لقديسين رأيتهم وكأنهم نائمني أمامي. عندما استيقظت في الصباح فرحت جداً، سوف أصف لأبونا الدير كما رأيته، لابد أن أبونا يعرف الدير، وبذلك سوف يتأكد من صدقي.

 

وجاء الموعد، ذهبت إلى سامية مبكرة انتظر حضور "أبونا" بفارغ الصبر . . ثم جاء "أبونا" سلمت عليه وقبلت يده بكل حب وتقدير وجلست أمامه في القعد المواجه له، بدأت أروي كل ما رأيت، كنت ابكي بشدة ولم استطع السيطرة على نفسي وأنا أصف السيد المسيح: طريقة كلامه، حبه، حنانه، رقته، كأني أراه مرة أخرى وأسمع صوته، كذلك رويت له كل ما رأيت بعد ذلك وكل ما سمعت و "أبونا" ينصت إلي بكل اهتمام. بعد أن انتهيت من وصف الدير الذي رأيته قال "أبونا:" "هذا وصف لدير البراموس وأنا أدعوك لزيارته، هل تريدي أن تذهبي معي؟" قلت له في لهفة "طبعاً أريد أن أذهب" قال "سوف اذهب يوم الثلاثاء القادم وأعود نهاية يوم الخميس، وسوف نتحرك في الخامسة صباحاً ونتقابل أمام منزلي. تذكرت على الفور شقتي الخاصة، إنها في نفس الشارع على بعد مسيرة خمس دقائق أو أقل، عرفت الآن سبب ذلك الإصرار العجيب الذي كان بداخلي أن أستأجر شقة، وفي هذه المنطقة، نعم عرفت أنه تدبير القدير.

 

بدأ "أبونا" يشرح لي التجسد وحتميته، قلت له "لا تتعب نفسك يا "أبونا" في الشرح لقد رأيت كل شيء بنفسي، بعيني رأيت الإنسان وفيه الإله، رأيت ما يعجز اللسان عن وصفه، ليت الجميع يعرف مقدار حبه لنا، ليتني أستطيع أن أجد الكلمات المناسبة لأعبر عما رأيت."

 

استمر لقائي مع "أبونا" خمس ساعات من الثانية بعد الظهر حتى السابعة مساءً، ولم أشعر كيف مرت هذه الساعات، كنا جميعاً سعداء بحضور الحبيب في وسطنا، انصرفنا على أمل لقاء في الخامسة صباح الثلاثاء التالي.

 

وفي طريقي إلى المنزل كنت أفكر كف سأمكث ثلاثة أيام بعيدة . . وبماذا أجيب لو سألني أولادي أين أنت ذاهبة؟ . . لقد حان الوقت لابد أن أنتقل إلى شقتي الخاصة اليوم التالي – الاثنين، لكي أكون اليوم اللاحق – الثلاثاء – مستعدة للذهاب إلى الدير مع "أبونا." ولكن كيف سأواجه أولادي؟ كيف أخبرهم؟ لم يبق على امتحانات ابني سوى أياماً قليلة، وهو في بكالوريوس هندسة عين شمس، لقد وفرت له كل راحة وهدوء طوال العام الدراسي، ولم أقصر في طلب له، إلهي ساعدني . . قوني في هذا الموقف الصعب . . هل سأتحمل بعد أولادي. ابني . . إنه ابن عمري لقد بلغ من العمر الثالثة والعشرين . . وابنتي الكبري وعمرها الآن اثني وعشرين عاماً . . وابنتي الصغرى عمرها الآن عشرون سنة. هذه أول مرة أفارق فيها أولادي، رغم إني مطلقة منذ عام 83، إلا إني لم استطع أن أتركهم. وهل سوف اتحمل لحظة وداعهم؟ وهل سيتركوني أرحل في هدوء؟ ساعدني يا رب سوف أكلمهم اليوم وأرحل غداً. انتهزت فرصة تجمع أولادي و والدهم أمام التلفزيون، قلت لهم في هدوء "على فكرة أنا ذاهبة غداً إلى شقتي الخاصة،" انتظرت رد الفعل، ولكن كانت المفاجأة! سكت الجميع! لم ينطق أحد بكلمة! وأخذوا يحدقوا فيّ! أضفت مسرعة "أظن إني لم أقصر في حقكم." تركتهم وذهبت إلى حجرتي أجمع حاجياتي دون أن أعطي أي أحد منهم الفرصة لمناقشتي لكي لا أضعف أمامهم أو أنهار، كم أنا سعيدة أشكرك يا رب وفي صباح الاثنين نزلت إلى المدرسة مبكرة، وبعد انتهاء اليوم الدراسي طلبت من اثنين من عمال المدرسة احضار سيارة نقل صغيرة. جاء العاملان ومعهما السيارة النقل . . بأت في إنزال حاجياتي إلى السيارة، يا للعجب . . كم أنا سعيدة . . سعادتي لا توصف! إن الموقف أسهل مما يتصور العقل، إني أشعر أني عروسة ذاهبة إلى بيت عرسها . . نعم أنا عروسة . . سوف انفرد بك يا حبيب، إن حبك يفوق كل حب . . وكل عاطفة. استسلم الجميع . . أعرف السر في استسلامهم . . إنه أنت يا قدير. رغم أن شقتي الجديدة متواضعة جداً ولا يوجد بها إلا الضروريات لكنها في عيني قصر مضاء بنور الحبيب، إن ما بداخلي أقوى من أي شيء آخر، إن لساني يعجز عن وصف مقدار شوقي إليك، عندما نعرف مدى حبك لنا . . نقع في حبك لأنك احببتنا أولاً. لا أريد معك شيئاً ملكت نفسي وتربعت على عرش قلبي بلا شريك . . فهنيئاً لي . . اسبحك . . أمجدك . . أشكرك لأنك جعلتني أعرفك وأحبك.

 

ركبت السيارة وانطلقت بنا إلى شقتي الجديدة، أكاد أطير من الفرح . . وصلنا . . اصعدوا حاجياتي . . انتهوا من عملهم وتركوني واصنرفوا. هذه أول ليلة قضيتها في عمري بمفردي . . لست بمفردي . . يداك الكريمتان تحيطاني . . قضيت الليل بطوله أنظف وأرتب شقتي حتى الفجر، لقد حان موعد "أبونا." خرجت مسرعة لأجد "أبونا" واقف في الشارع بجوار سيارته يرتقب حضوري، ركبنا السيارة وانطلقنا إلى طريق مصر الاسكندرية الصحراوي، وصلنا . . لك المجد الدائم، إنه نفس المنظر الذي رأيته ووصفته بالضبط أمام "أبونا" . . كل شيء كما رأيته تماماً، البوابة المعدنية، الممر الطويل المحاط بالأشجار، الكنيسة الجديدة، الكنيسة القديمة وبها توقفنا لحضور القداس الإلهي، أول مرة في حياتي لم أفهم ما يقال . . أشعر بالكلمات . . تمنيت أن أعرف ما يقال وما معناه . . وبعد لحظة أجد أحد الآباء الرهبان يقدم لي كتاباً لاتابع القداس . . إني أقرأ . . أفهم . . قرأت بسرعة اسم الكتاب، إنه "الخولاجي المقدس،" يجب أن أحصل على نسخة منه، أشكرك يا إلهي الطيب، أنت تعطي دون أن نطلب لأنك أنت الوحيد الذي يعرف احتياجنا، لم تمر إلا لحظات وشممت رائحة دم عجيبة تملأ المكان، وضعت يدي على انفي وأخذت أبحث عن مصدر الرائحة، لاحظ "أبونا" ما أشعر، جاء نحوي وسألني "ما بك" قلت له "إني أشتم رائحة دم قوية ولا اعرف مصدرها" ابتسم أبونا وقال "بعد القداس سوف أشرح لك." في نهاية القداس وجدت الجميع يذهبون إلى "أبونا" ويأخذون شيئاً في فمهم إلا أنا، سألت أبونا "ماذا يحدث حولي؟ لا أفهم! أريد ان آخذ مثلهم" قال أبونا "سوف أشرح لك. أولاً نحن نصنع القداس ذكرى ذكرى موت السيد المسيح وقيامته، وهذا الخبز هو جسده وعصير العنب والماء هو دمه، إن الله يحبك كثيراً، إنه يستخدم حواسك ليقرب إليك الحقائق" قلت له "آمنت أن هذا هو جسده ودمه الكريمين، اشتممت رائحة الدم، اشكرك يا ربي، إريد أن اتناول منهما" قال "أبونا:" "لا . . لابد أن تعتمدي أولاً،" قلت له "وماذا يمنع عمادي الآن؟" قال "ليس بهذه السهولة، يجب أن تمر فترة اولاً حتى أفكر في هذا الموضوع" إذاً علي أن أصبر، اعطاني أبوناً كتاباً مقدساً وأجبية، علمني كيف أصلي . . اشتريت شريط كاسيت به القداس الإلهي وكتاب الخولاجي لأحفظ وأفهم معنى كل كلمة في القداس. مر الثلاثاء والأربعاء والخميس . . لحظات جميلة ملؤها السلام والسعادة الحقيقية، لا أعرف كيف مر بي الوقت، كنت أستيقظ في الثالثة صباحاً لأحضر التسبحة ثم القداس، كنت أشعر أني لست في العالم، أنا في السماء مع الملائكة، إن الآباء الرهبان في ملابسهم البيضاء ملائكة بالفعل، كيف مر الوقت بهذه السرعة؟

 

عدت إلى منزلي . . لقد كسر الحاجز الذي كان بيني وبين الكنيسة، وفي نفس الوقت انتهى العام الدراسي بسلام، اسعدي يا نفسي بالحبيب، سوف أذهب كل يوم إلى الكنيسة وأصلي وأقرأ في الكتاب المقدس في العهد الجديد أولاً كما نصحني "أبونا." إن كلام الإنجيل سهل ومسلسل وبسيط، إنه يغزو القلب مباشرة . . لا أمل ولا أتعب لكني ازداد شوقاً وجوعاً، عرفت أهمية المعمودية، الجميع يتناول جسد ودم المسيح بعد القداس إلا أنا . . لابد أن اعتمد ساعدني يا ربي.

 

كنت أزور أولادي بصفة مستمرة وأطمئن على ابني في امتحاناته، كلما انتهى من امتحان، أشكر الله، ثم جاء امتحان مادة التخلف من العام الماضي، وظهرت على ابني علامات القلق والإعياء، عندما سألته قال أنه غير مطمئن لإجابة هذه المادة، كانت صدمة لي، شعرت بالندم! كان يجب أن انتظر بجوار ابني حتى تنتهي مدة الامتحانات، ذهبت إلى "أبونا" وأخبرته بما حدث، حاول تهدئتي ودعاني مرة اخرى لزيارة الدير مع ابنته وصديقة لها، وافقت وحددنا الموعد. انطلقنا نحو الدير، وصلنا حوالي الخامسة بعد الظهر، قال "أبونا:" "ما رأيكم أتريدون أن تصلوا غروب في مغارة الأنبا كيرلس" وافقنا . . ذهبنا بصحبة أحد الرهبان، وقفنا نصلي . . إنها مغارة صغيرة، وقف "أبونا" الراهب خارج المغارة. كنت أبكي وأطلب من ربي الحبيب أن يساعد ابني وأن ينجح. كلما نظرت إلى صورة البابا كيرلس أشعر أن عينيه تتحركان، ولكني قلت ربما من أثر الدموع، كانت أشعة الشمس في ظهرنا، فجأة شعرت بمن يقف خلفنا، إنه شخص ضخم يحجب أشعة الشمس، كأنه يحيطنا نحن الثلاثة بذراعيه. أشعر بعينيه القويتين تثقبا ظهري، همست في أذن ابنة "أبونا" وصديقتها، وطلبت منهما أن ننصرف، عند خروجنا من المغارة لم أجد أحداً! يا للعجب!! عرفت أنه "البابا كيرلس" إنه قديس عظيم، وعرفت أيضاً إن الله يستخدمه في معجزات كثيرة لكني شعرت بالخوف، وطلبت من أبونا أن ننصرف من الدير وانصرفنا في اليوم التالي.

 

عدت إلى منزلي ولكني كنت لا أزال أفكر كيف كان يحاوطنا بذراعيه؟ وما هذه القوة؟ إني أشعر به حتى الآن . .! مكثت أفكر فيما حدث إلى أن استغرقت في النوم لأرى أني جالسة في حجرة مكتبي في المدرسة، وإذ ابني يدخل ولكنه طفل صغير وجهه مضئ، يجري نحوي ويمسك يدي ويقبلها وهو يقول "ماما أنا اعتمدت" قلت له وأنا أبكي بشدة من شدة الفرح"كيف يا ابني هذا غير معقول؟" كرر ابني مؤكداً وهو يقول "هذا بركة دعائك،" بكيت بشدة وكررت مرة ثانية وثالثة وابني يكرر نفس الكلام، استيقظت من نومي وأنا أبكي كأنه واقع، لكني لم اصدق . . لعلي أهذي من أثر ما حدث بالأمس وحاولت أن أنسى ما رأيت.

 

بدأت ألح على أبونا "أريد أن اعتمد" وفي كل مرة كان أبونا يقول "اصبري،" عرض علي أبونا الذهاب إلى سانت كاترين في رحلة مع الكنيسة فوافقت. رافقتني في الرحلة سيدة عرفت السيد المسيح، إنها سيدة مؤمنة فاضلة. قضيت أوقاتاً ممتعة زرت فيها دير سانت كاترين وجبل موسى ورأيت العليقة، جلست على الصخور مع تلك السيدة نتأمل عمل يدي الله، كان يدور بذهني نفس السؤال "متى سأعتمد؟ ومن سيقوم بهذه المهمة؟ افقت على صوت تلك السيدة تصرخ قائلة "أبونا بطرس،" تعجبت وسألتها "من هو أبونا بطرس؟" وإذ بسيارة رحلات تقف وينزل منها أحد الآباء. لم أكن أعرفه ولم أره من قبل، وجدت صديقتي تنطلق نحوه وهي تجري وأنا أجري خلفها بكل شوق وسلمنا عليه. ثم سألتها من هو؟ أجابت "كيف لا تعرفيه الجميع يعرف من هو" ثم عرفت منها بعد ذلك من هو، عرفت نعمة الله التي وهبها له وعرفت أيضاً أنه يقوم بعمل اجتماع كل يوم سبت، اتفقنا أن نحضر معاً اجتماعاته. من حسن ترتيب القدير أن هذه السيدة تسكن بجواري، كذلك أبونا بطرس، الذي يخدم في كنيسة في نفس المنطقة في شارع موازٍ للشارع الذي أسكن فيه على بعد مسيرة ربع ساعة، أشكرك يا إلهي الحنون.

 

عدت من رحلة سانت كاترين وكلي أمل أن أعتمد وأتناول جسد ودم السيد المسيح، لابد أن أحدد موقف "أبونا!" هل سيعمدني أم لا؟ قررت أن أذهب إلى "أبونا." وبينما كنت أسير في الشارع مسرعة كنت أسأل الله، إلهي إذا مت الآن هل ستقبلني أبنة لك، مسيحية؟ إلهي أنت تعلم شوق قلبي إليك وإلى المعمودية ولكن لا أستطيع أن أفعل شيئاً، أرجوك يا ربي ساعدني ورتب لي أمري، أنا أعرف أهمية المعمودية، أنت شاهد يا إلهي أني أحاول بكل جهدي، أرجوك يا ربي حقق لي طلبتي. فوجئت بسيدة عجوز توقفني، وإذ بها واقفة أمامي فاتحة ذراعيها وممسكة بعضا كبيرة تستند عليها، وبيدها الأخرى كيس نايلون به طماطم كبيرة الحجم وحمراء اللون لفت نظري منظرها، أوقفتي وهي تسأل "الكنيسة خرجت؟" تعجبت من سؤالها وقلت لها "الكنيسة . .! أي كنيسة" قالت "كنيسة العذراء مريم" قلت لها "لا أعرف،" قالت "ألم تكوني بالكنيسة،" قلت لها "لا ومن أدراك إني كنت بالكنيسة،" قالت "ألست مسيحية" كنت في ذلك اليوم أضع طرحة على رأسي، قلت لها "وهذه الطرحة التي على رأسي!!" قالت مؤكدة بكل ثقة "برضه مسيحية" قلت في نفسي لعل أحد طلب منها أن تقول لي هذا الكلام ليعرف سري، قلت لها "من قال لك إني مسيحية؟" أشارت إلى السماء وقالت "هو" وأضافت "أنا أيضاً مثلك مسيحية" أشارت على معصم يدها اليمنى الممسكة بالعصى ورفعت يدها لأعلى، وإذا بصليب كبير جديد لونه أزرق مرسوم على يدها. هنا شعرت براحةو سلام، عرفت من طلب منها أن تطمئني، أشكرك يا إلهي الحنون، حاولت أن أتركها وأسير في طريقي ولكنها بكت بشدة، سألتها عن سبب بكائها قالت "إن الأيام صعبة والظروف قاسية وقلوب الناس أصبحت قاسية جداً" فتحت حقيبة يدي وأخرجت مبلغاً بسيطاً ووضعته في يدها ومشيت وبعد خطوتين عاتبت نفسي، كيف أكون بخيلة لهذه الدرجة مع هذه السيدة التي حملت لي هذه البشرى فأخرجت مبلغاً كبيراً، التفت خلفي أبحث عنها ولكني لم أجدها، جريت للأمام في أثرها ولكن لا أثر لها . . عرفت أنك أنت أرسلتها لتطمئني . . إلهي الرقيق كل الرقة تجيبني في الحال . . يا لعظم محبتك، ليت الجميع يعرفون مقدار حبك لنا، لأنهم لو عرفوا لما كان هناك شخص حزين على الأرض.

 

واصلت سيري حتى منزل "أبونا" وازددت اصراراً أن أعتمد وأن أكون فعلاً مسيحية، جلست أمام "أبونا" وسألته "هل ستعمدني أم لا؟" رد قائلاً "لا تسأليني مرة أخرى فلن يكون ذلك قبل سنة" كان رد أبونا صدمة كبيرة لي، لم أصدق ما سمعت . . ليست قبل سنة! هل يضمن أبونا عمري بعد سنة أو حتى لمدة ساعة واحدة أو يضمن عمره هو؟ لا . . لابد أن أجد طريقاً آخراً.

ذهبت إلى صديقتي كما اتفقنا لنحضر اجتماع أبونا بطرس، بكرنا في الذهاب وجلسنا في الصف الثالث من الأمام، كان موضوع العظة التوبة والرجوع إلى الله، كم كانت كلماته رائعة تغزو القلب وتوقظ الضمير، قررت أن أواظب على حضور الاجتماع. وبعد الاجتماع قابلنا "أبونا" بطرس واخبرته صديقتي أني من الحظيرة الأخرى، كم كانت فرحته بي لن أنسى ابداً تلك النظرة وتلك الابتسامة التي رسمت على وجهه وهو يحدق فيّ. وفي أحد الاجتماعات قابلت احدى زميلاتي بالمدرسة، وجدتها تكلم سكرتيرة "أبونا" بطرس، كانت المفاجأة أن سكرتيرة "أبونا" بطرس كانت طالبة بمدرستي منذ خمس سنوات، وتعرضت لموقف سيء مني وذلك لأنها مسيحية، إن لقائي بها في الكنيسة كان أكبر مفاجأة فلم تكن تتخيل ابداً أن تراني في الكنيسة ولكن إنها إرادة القدير، وحددت لنا موعد لقاء مع "أبونا" إنه يوم الأربعاء القادم بعد القداس.

 

جاء يوم الأربعاء وبعد القداس ذهبنا إلى مبنى ملحق بالكنيسة حيث مكتب "أبونا" بالدور الثاني، سارت أمامي وأنا اتبعها وإذ بي أمام حجرة مكتوب عليها "حجرة المعمودية،" وقفت أمام الباب اسأل الله متى سأدخل هذه الحجرة وإذ بباب الحجرة يفتح من الداخل ويخرج منها اثنان ومعهما طفلة كانا يعمداها، نظرت إلى داخل الحجرة . . يا للعجب أنها نفس الحجرة التي رأيتها في رؤيتي . . شعرت براحة وسلام وعرفت أني سوف اعتمد هنا . . شكراً لك يا رب أنت دائماً تطمئني. أسرعت وراء زميلتي، دخلنا لمقابلة "أبونا،" جلست امامه وبدأت أقص عليه رؤيتي وكأني أراها مرة أخرى. رحب "أبونا" بي وأعطاني موعداً آخراً لمقابلته في نهاية شهر يونيو 1988.

 

تجدد لقائي مع "أبونا" بطرس، وجدت فيه كل ما كنت افتقده، رعاية، عناية فائقة، حناناً أبوياً مع شخصية قوية حازمة، إني أشعر أمامه أني طفلة وهذا ما كنت أريده.

 

انتهت الإجازة الصيفية وبدأت عودة المدرسين للإعداد للعام الدراسي الجديد، ساعدني يا ربي أن أقوم بعملي كما كنت ولكي كيف لقد تغيرت تماماً . . أين صوتي العالي؟ كان صوتي يملأ الإدارة إما ضاحكة أو في مشاجرة مع آخرين، كنت أدخن بجنون . . إني أخجل من صورتي السابقة. كنت أستعمل جميع أنواع مساحيق التجميل وأقوى العطور وأفخر الثياب. الآن لا فرق عندي بل إني  أبحث عن المتواضع والبسيط منها، أنا . . لست أنا!! لقد بدأ الجميع يلاحظون ويتسائلون ماذا حدث؟ أحب كل الناس أريد أن أخدم الجميع بلا تفرقة . . أشعر أني أريد أن أعانق كل من يحمل اسمك، إن قلبي مضئ بحبك . . لابد أن أطلب الصفح من كل من أسأت إليه، ساعدني يا إلهي الحبيب لقد ملكت على قلبي وعقلي وجميع حواسي، أريد أن اترك عملي، لن أكون أبداً كما كنت، أنا لك بجملتي، إن جميع مسيحيي المدرسة عرفوا، لقد رأوني في الكنيسة، نعم كانت مفاجأة ولكن غير المستطاع عند البشر مستطاع عندك أنت يا قدير.

 

وفي أحد الأيام فوجئت بابني يدخل حجرة مكتبي ووجهه مضئ من شدة الفرح، جرى نحوي وهو يهتف ويقول: "ماما أنا نجحت وحصلت على البكالوريوس" لم أصدق ما سمعت، بكيف من شدة الفرح وقلت له "لكن كيف؟ هناك مادة لم تكن راض عن اجابتك فيها،" امسك يدي وقبلها وهو يقول "هذا بركة دعائك." نعم تذكرت في الحال تلك الرؤية . . إنه نفس الوجه المضئ، أشكرك يا إلهي . . يا محب البشر.

 

مرت ايام وأنا اواظب على حضور اجتماع "أبونا" بطرس وأيضاً حضور القداس يومياً، شعرت أني أنمو بسرعة وازددت شوقاً إلى المعمودية، كنت كلما قابلت "أبونا" أكرر له طلبي "أريد أن اعتمد" وفي يوم الأربعاء الموافق 23/11/1988 كان موعد لقائي مع "أبونا" وكانت المفاجأة السارة أن أجد "أبونا" يقول في هدوء "هل أنت مستعدة للمعمودية؟" صرخت في لهفة "طبعاً مستعدة،" قال وهو يبتسم "سوف أعمدك يوم الأربعاء القادم الموافق 30/11/1988 أثناء القداس،" وأخرج من درج مكتبه ورقة صغيرة وكتب عليها "سوف تواجهين حرباً من الشيطان، ولكن لكي تقوى على المواجهة عليك بالمواظبة على الصلاة وقراءة الكتاب المقدس" أخذت الورقة وانطلقت من أمامه أجرى وهو يقول "لا تخبري أحداً البتة غير زميلتك لأنها ستكون اشبيتنك."

 

ظللت أعد الدقائق الباقية، أواصل الليل بالنهار أصلي إليك يا قدير "إلهي الحبيب أرجوك يا ربي ألا تسمح لعدو الخير أن يعطل أو يمنع عمادي، أرجوك يا ربي تمم لي طلبتي حتى وإن كانت هذه الطلبة هي آخر طلبة لي، فيها كفايتي، أموت معك في المعمودية واحيا معك، أعدك يا ربي أن أكون لك باقي عمري بكل كياني، أعدك أن أكرس نفسي لك، لن أكون إلا بك ومعك ولك."

 

مرت الأيام طويلة وثقيلة حتى فجر الأربعاء 30/11/1988، خرجت من منزلي في السادسة صباحاً، أكاد أن أطير، بعد لحظات وصلت إلى الكنيسة وأيضاً وصلت زميلتي، يا له من صباح مشرق جميل عظيم، إنه ميلادي الحقيقي، صعدنا بعد ذلك إلى مكتب "أبونا" بطرس ننتظر وصوله، كل شيء حولي سعيد يكاد أن ينطق، سمعت صوتاً . . إنه صوت وقع أقدام "أبونا" . . نعم . . بعد لحظات حضر "أبونا" إن وجهه مضئ مشرق، لن أنسى أبداً وجهه، صافحنا وهو ينظر إلي بكل حب وحنان وسعادة . . توجهنا إلى حجرة المعمودية ووقفنا ثلاثتنا جهة الغرب وجحدنا الشيطان، ثم واجهنا الشرق وأعلنت إيماني بربي وإلهي ومخلصي يسوع المسيح، ثم تركني "أبونا" وخرج من حجرة المعمودية. ارتديت قميص المعمودية، نزلت في جرن المعمودية، يا لها من لحظة عندما لمس الماء جسدي، إنه شيء مختلف تماماً لم اشعر به من قبل، ليتني أستطيع أن أصف . . كأنه تيار كهربائي يسري في جسدي ويشعرني بسلام لم أشعر به من قبل إلا وأنا بين قدمي الحبيب، كأني فعلاً بين قدميه، أتمنى أن أمكث هكذا أطول فترة ممكنة، دخل "أبونا" وسألني "هل هناك اسم معين تحبي أن يطلق عليك؟" قلت له "لا . . فليسميني أبونا." قال "يختار لك الله اسم . . ثم أضاف ما رأيك في فيبي" قلت "فيبي . . أوافق" وضع يده على رأسي وقال "عمدتك يا فيبي باسم الآب" وضغط على رأسي ونزلت تحت الماء، فتحت عيني يا له من منظر، إني في بلورة كريستال واسعة مضيئة أكاد أن اسمع أصواتاً عالية جميلة . . إنه منظر عجيب! تمنيت لو أمكنني البقاء تحت الماء فترة أطول ولكن . . صعدت وأخذت نفساً عميقاً ثم ضغط أبونا على رأسي وهو يقول "والابن" نزلت تحت الماء مرة ثانية . . إنه نفس المنظر الجميل ونفس الأصوات، حاولت أن أبقى فترة أطول . . ولكن صعدت، وقررت أن أبقى هذه المرة فترة أطول فأخذت نفس أعمق . . ثم ضغط أبونا على رأسي للمرة الثالثة وهو يقول "والروح القدس" حاولت أن أملأ عيني بهذا المنظر الجميل واستمتع بهذه الأصوات الرائعة حتى كدت أن اختنق تحت الماء . . ولكن صعدت . . قال "أبونا:" "أطلبي من الله أن يهبك عطية الروح القدس" وقفت في جرن المعمودية في الماء أصلي "إلهي الحبيب الحنون الرقيق . . امنحني يا رب روحك القدوس . . يا رب كما انعمت به على تلاميذك الاطهار ورسلك المكرمين ومنحتهم سلامك أنعم به علي" شعرت بلمسة الحبيب . . لك نفسي . . لك حياتي . . كل ما لي فهو لك، وعدتك أن أكرس نفسي لك وها أنا اسلمك حياتي وأيامي، وما فائدتي على الأرض إن لم أكن لك.

 

قام أبونا بعد ذلك بدهن وجهي وكفي بالميرون وخرج وتركني لأرتدي ملابسي. يا له من شعور يغمرني! نعم يا إلهي الحبيب لقد فهمت الآن وعرفت . . لمست بنفسي ما هي المعمودية، إنه سر عظيم يفوق كل وصف. من أنا الآن؟ كل شيء مختلف تماماً لقد مت معك وقمت معك وبك ولك، لقد مر عام على إيماني بك . . لكن اليوم شيء آخر!! والآن وبعد أن قرأت كثيراً في الإنجيل المقدس أصبح لكل كلمة عمق جديد، كلماتك الخالدة أعيشها الآن، كنت أفهمها ولكني الآن ألمس وأحس، ما أعظمك يا إلهي! ليت الجميع يعرفون . . ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب . . جاء صوت الحبيب في صدري "الآن تستطيعين أن تتكلمي،" يا له من تصريح أشعر أنه كسر قيدي . . لا يهمني شيء لو قتلوني سأصل إليك بسرعة، ومعك لا أريد شيئاً، سوف أتكلم وأتكلم ولن أكف عن الكلام في كل مكان وفي وكق وقت كلما أتيحت لي فرصة.

خرجت من حجرة المعمودية، حجرة ميلادي الحقيقي توجهت إلى الكنيسة للتناول، يا له من يوم مشرق عظيم . . كم تمنيت تلك اللحظة! وأنا ذاهبة للتناول شعرت كأني عروس أزف إلى الحبيب، يمشي ورائي كثيرون في موكب عظيم لا أكاد أن أراهم ولكني أسمع صوت وقع أقدامهم، إنهم يرنمون بفرح، بصوت جميل، إن أقدامي لا تلمس الأرض، خطواتي في الهواء، إني أطير . . وقفت أمام "أبونا" للتناول . . حلماً جميلاً طالماً تمنيته. لكنه الآن حقيقة أعيشها، فتحت فمي وتلقيت المناولة . . يا للعجب! إنها قطعة لحم في فمي . . ماذا أفعل لابد أن أبتلعها . . وكان، ثم تناولت دمك العجيب . . إلهي يا لعظم محبتك! من منا يستحق أن يأكل جسدك وأن يشرب دمك! أي فم يستحق هذه الكرامة . . أن تستقر في داخلنا . . أنت تعطي حسب غنى مجدك، إلهي أسكن في أعماقي، لكي تضئ ظلماتي بنورك العجيب ولكي لا أكون أنا بل المسيح الساكن فيّ . . فهمت الآن معنى كلمة بولس الرسول "لبستم المسيح" ما أعذب الحديث عنك . . ما أجمل وأثمن الوقت الذي يقضى معك . . لا توجد قوة على الأرض تمنعني عنك . . لقد أصبح لحياتي معنى . . إن بداخلي نار تتأجج تزداد اشتعالاً، ليت الجميع يشعرون بما أشعر . . لن أخاف . . لن أكف . . لن أكتفي . . أنت معي . . تقويني وتساندني.

 

إنطلقت في كل مكان أتحدث عن الحبيب، قمت بتسجيل خمسة أشرطة كاسيت، آه لو عرف الناس ما أشعر به وأنت يا قدير تستخدم حقارتي لمجد اسمك، وكم مدى فرحتي عندما أجد استجابة ممن اكلمهم . ! فكم بالحري فرحتك أنت بخاطئ يعود إلى حضنك الرحيم. وأيضاً لا أستطيع أن أصف المرارة التي أشعر بها عندما التقى بقساة القلوب . . فكم بالحري ما تشعر أنت به ممن لا يلتفتون إليك وهم من صنع يديك ولا يعرفونك وأنت محصى شعور رؤوسهم، لا يريدونك وأنت تريد الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون، لكن يا إلهي أنت أب للجميع . . أنت منبع الرحمة والحنان، ولابد أنه سيأتي يوم ويعرفك الجميع أنك أنت الرب الإله محب البشر.

 

أعن ضعفي يا إلهي واغفر لي خطاياي، احفظني في إيمانك إلى النفس الأخير، اشكرك يا من أبدلت قلبي الحجري بآخر أنت ساكن فيه، هذا هو عمل الرب العجيب في أنه صادق الوعد مع الذين يحبونه بكل قلوبهم.

 

رحلتي مع الصليب

 

ما أجمل الحياة معك، مرت أيام كثيرة ألقي فيها الرعاية والمحبة من "أبونا" بطرس، كنت أواظب على الصلاة والتناول يومياً، كلي اشتياق إليك . . لقد أصبح عملي عبء ثقيلاً أشعر أني أبذل مجهوداً كبيراً كي أبدو كما كنت، ولكن كيف؟ كيف أخفى ما بداخلي . .! لقد بدأ الجميع يسألوني ما بك؟ لقد تغيرت؟ نعم وكيف اخفي وأنت ساكن أعماقي تضيئها بنورك العجيب، لقد أبدلتني . . شكلي تغير . . صوتي . . حتى ملمسي . . ملكت قلبي وعقلي . . ساعدني يا ربي أن أتماسك حتى نهياة العام الدراسي.

 

انتهى عام 1988، عام ميلادي الجديد وجاء عام 1989. استقبلت العام الجديد في الكنيسة. وفي عيد الميلاد المجيد 7/1/1989 وقفت بين يديك الكريمتين أشكرك وأمجدك. لقد مر عام على رؤيتك الغالية . . أشعر بوحشة إليك . . أريد أن أراك مرة أخرى . . أغمضت عيني وأنا أقول يا رب أرحم، وإذ بك يا إلهي واقف أمامي . . صدرك عاري ويداك مسمرتان على الصليب وتنزف دماً . . على رأسك إكليل من شوك، وكأن الشوك قد دق في جبهتك وانغرس في وجنتيك والدم يسيل . . غطى وجهك الكريم . . شعرك أيضاً قد ابتل من الدماء وكذلك لحيتك . . أردت وجهك لليسار واليمين لكي أرى بوضوح جراح وجهك والدماء تغطيه، من شدة ألمك وانفعالك بدت الشعيرات الدموية واضحة وكأنها منفجرة . . كل هذا رأيته في لحظة . . كل شيء واضح تماماً . . الدماء تغطي وجهك، وعينيك غائرتين من شدة الألم والإعياء . . كاد قلبي أن يعتصر من شدة الألم . . لم أتحمل، صرخت صرخة  مكتومة وفتحت عيناي . . لكن صورتك أمامي . . كل هذه الآلام من أجلنا نحن . . لقد رأيت بعيني، إن ما رأيته لا يوصف ولا يتحمله بشر . . أنت تحملته يا حبيب.

وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى "أبونا" وأخبرته بما رأيت . .! من نظرته إليّ عرفت معنى  ما رأيت، لقد نظر إليّ بإشفاق الأب الحنون وقال "إن السيد المسيح يريدك أن تعرفي كم تألم من أجلك" فهمت أنه ينبغي أن أتألم أنا من أجله، لابد من حمل الصليب . . لكن ساعدني يا إلهي الرحيم . . قوني . . أعن ضعفي.

 

لم يكن يمر علي عام دون أن أتعرض إلى حادث أو عملية جراحية كبيرة أو مرض خطير، كنت دائماً أشرف على الموت، وتنشلني بعد ذلك بأعجوبة، لكن لقد مر علي عام 1988 دون أن أتعرض لأي شيء بالمرة. سجدت إليك يا حبيب أشكرك على عنايتك ومحبتك . . جاء صوتك الحنون في صدري قائلاً "لا تظني أني كنت أعذبك بهذه الآلام . . لا . . بل كنت أعودك على الصبر وتحمل الألم." تحمل الألم . . لابد أن هناك آلام آتية، وتذكرت على الفور قول بولس الرسول "لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضاً أن تتألموا من أجله."

 

علمت يا رب أنك إله رؤوف ورحيم بل إنك كثير الرحمة، كل هذا الإعداد من أجلي أنا يا رب، كنت زوجة وكان هناك ارتباط قوي بيني وبين زوجي وأم لثلاثة، كنت أرى الدنيا كلها في أولادي، كان عملي أو مدرستي مملكتي وتوجت نفسي ملكة فيها. لم يخطر ببالي أنه هناك من سأحبه أكثر من الدنيا ومن فيها. لكني أقولها الآن لا يوجد على الأرض شيء يساوي قطرة من الدموع الغزيرة التي انهمرت من عينيك. عملك فيّ يا إلهي القدير بصبر وطول أناة ما أعظمك.

تزوجت عام 1964 واستمر زواجي حتى عام 1983، لم يكن من الممكن أبداً أن ينتهي زواجي بهذه البساطة وأن أكون أنا صاحبة قرار الانفصال، والحقيقة لم أكن أنا بل هو . . إنها خطة القدير.

 

في عام 1980 وبالتحديد في شهر أبريل تعرضت لنزيف حاد، نقلت على أثره إلى مستشفى جامعة عين شمس حيث أن شقيقتي تعمل هناك، وأجريت لي عملية لوقف النزيف وأخذت عينة من الرحم لتحليلها. فوجئت أني مصابة بأورام سرطانية بالجدار الخارجي للرحم ولابد من استئصال الرحم فوراً خوفاً من انتشار الأورام في جدار البطن، وبالفعل أجريت لي عملية استئصال الرحم يوم الأحد الموافق 20 أبريل 1980 وكنت في حالة صحية سيئة جداً من أثر النزيف . . دخلت غرفة العمليات الساعة التاسعة صباحاً وخرجت الساعة الثانية عشرة ظهراً، ومن شدة الآلام كنت كلما أفقت من اثر المخدر أعطاني الأطباء مخدراً آخر واستمر ذلك حتى الساعة العاشرة مساءً. أفقت لأجد نفسي وكأني أهبط بالتدريج في حفرة سوداء مظلمة ورائحتها كريهة جداً وأصوات أنين وبكاء، أردت أن أصرخ لاستنجد بمن حولي لكني لم أقو على الكلام وأخيراً استسلمت في غيبوبة، وهنا قامت إدارة المستشفى بطرد أهلي وأقاربي وزوجي من المستشفى ونقلوني إلى حجرة العناية المركزة، طلبوا من زوجي أن يترك رقم تليفونه ليتصلوا به إذا مت. ويمد القدير يده وينتشلني من الموت. وفتحت عيناي على أول ضوء من صباح الاثنين وإذ بالطبيب يضربني على مكان العملية، حاولت أن استجمع قواي لأصرخ وأخيراً سمع صوتي . . وجدت الواقفين حولي يتهللون فقد حسبوني في عداد الأموات ثم كانت إرادة الله. انتظرت الصباح وأنا سعيدة لكي أخبر زوجي بنفسي أنا لا زلت حية وبدأ الجميع يتهافتون علي، اخوتي وأزواج أخواتي وأقاربي، حضر الجميع إلا زوجي، شعرت بالقلق والحيرة وقلت لعله أصابه سوء من أثر ما كنت فيه، أرسلت في طلبه ولكنهم لم يجدوه . . لقد ذهب إلى عمله! كيف يذهب دون أن يطمئن علي! وكتمت الألم في نفسي . . أنه أشد من ألم العملية . . وأخيراً حضر زوجي وعرفت منه أن أعصابه تعبت من منظري وخاف أن يصدم بموتي، لذلك ذهب إلى عمله ليغير جو!! . . ولكن كيف يتركني بين الحياة والموت ويذهب إلى عمله، وقلت في نفسي بعد أن ذبح مشاعري وقتلها لن أكون له زوجة بعد اليوم . . وكان حتى طلقت منه بأعجوبة عام 1983.

 

وتذكرت أيضاً . . كنت أسير أنا وابني وكنت متأبطة ذراعه حيث أن أبني طويل القامة وشعرت للحظة بحنين إلى الماضي ونظرت إلى ابني كم هو جميل! إنه أبن عمري . . وإذ بصبي لا يزيد عمره عن خمسة عشر سنة راكباً دراجة يحاول أن يتفادى سيارة فيضطر أن يصدم كتفي صدمة خفيفة، وإذ بي أطير في الهواء وكأن وزني خمس كيلوات فأفقد توازني تماماً، ثم أقع على الأرض جالسة على قدمي وهو ملتو تحت ثقلي، وفي الحال ظهر ورم كبير في مفصل القدم ولا أقوى على تحريك قدمي . . وأشعر بآلام فظيعة، ويحملني ابني في سيارة أجرة إلى مستشفى هليوبوليس إلى الاستقبال، وتعمل لي أشعة في الحال ولكن أشكر الله لا يوجد كسر ولكن هناك تمزق في الأربطة والعضلات ونزيف داخلي. وينصحني الأطباء أن أريح مفصل القدم مدة لا تقل عن عشرة أيام وأن أعمل كمدات لإيقاف النزيف وعلي أن أرفع القدم لأعلى وإلا سوف أزيد من النزيف الداخلي ولن تلتئم الأربطة والعضلات. كنت أسكن بالدور الخامس ولا يوجد مصعد في منزلي وأقيم بمفردي فمن سيقوم بخدمتي؟ قررت أن أقيم عند أخي فشقته في الدور الأرضي وزوجته إنسانة ذات خلق وسوف تقوم على خدمتي، وبالفعل أوصلني ابني إلى بيت أخي . . مضى يومان وأنا أواصل الليل بالنهار من شدة الألم، ولكن كان هناك ألم أشد . . إني بعيدة عن الكتاب المقدس وعن الكنيسة التي اعتدت أن أصلي فيها كل يوم . . وفي الليلة الثالثة جلست أصلي "يا إلهي الحبيب سامحني، كيف أضع يدي على المحراث وانظر إلى الوراء، أنا أعرف أني أخطأت أرجو أن تسامحني وأرفع عني هذه الآلام" ووضعت يدي على قدمي وقلت "باسمك يا رب باسم يسوع المسيح المبارك العظيم أرفع عني هذه الآلام لا أستطيع احتمالها،" شعرت بسلام وهدوء ورغبة في النوم ونمت نوماً عميقاً. وفي صباح اليوم التالي إذ بزوجة أخي توقظني في التاسعة صباحاً وهي تقول "ما كل هذا النوم؟" ونظرت إلى قدمي . . لا أشعر بشيء أين الألم؟ أين الورم؟ لا شيء بالمرة وكيف؟ ولكن كيف أتعجب وأنا طلبت باسم يسوع المسيح . . باسم يسوع المسيح كل شيء يجاب.  مجداً لله أبو ربنا وإلهنا يسوع المسيح. جاء أولادي ليطمئنوا علي وإذ بي واقفة، يا للعجب أقف على قدمي وكأن ليس بي شيئاً وصرخ ابني "ماذا تفعلين؟ لماذا تقفين هكذا لقد أمر الطبيب،" قاطعته "لن انفذ أمر الطبيب ومن يكون هو الطبيب؟ هيا سوف اذهب إلى شقتي الخاصة" وتذمر الجميع ولكني لم أبال. ذهبت إلى شقتي ودخلت الحمام للاستحمام وكانت المفاجأة . . في بطن قدمي المصابة، فقد وجدت مرسوماً عليها صليب صغير . . يا للعجب إنه مكان النزيف الداخلي، ولكني الآن عرفت وفهمت، سامحني يا إلهي الحبيب لن أنظر للخلف . . وكيف يدك الحبيبة تكون مع يدي على المحراث وأنظر للخلف . . سامحني . . أحبك أكثر من الجميع . . لا . . أن حبك لا يقارن بأي شيء في الوجود . . أنا لك بجملتي ولا أكون إلا لك، واستمر الصليب مدة ثلاثة أسابيع إلى أن شفى قدمي تماماً واختفى الصليب.

أوشك العام الدراسي أن ينتهي وتبدأ امتحانات نهاية العام. إني أبذل مجهوداً كبيراً وشاقاً لكي أبدو طبيعية . . أقوم بعملي ولكني أشعر بغربة في هذا العالم . . لا . . لن أستطيع أن احتمل، لابد أن أترك عملي. ولكن . . ساعدني يا إلهي إن الجميع ينظرون إلي بطريقة مختلفة ويتساءلون ما هذا التغيير العجيب والشامل، حتى مديرة المدرسة التي كانت صديقتي، صارت الآن بعيدة عني، كل شيء مختلف تمام الاختلاف.

 

وفي يوم دخلت إلي أخصائية اجتماعية وكانت تظن إني مريضة نفسياً . . أخذت تسألني ما بك؟ لا أحد يسمع صوتك . . أين ناهد التي نعرفها؟ وددت أن أجيبها لقد ماتت ناهد التي تعرفينها والتي أمامك الآن هي ابنة المسيح. أجبتها "لقد عرفت الله جيداً ولذلك تغيرت ويكفي ما مضى من عمري . . أريد حياة جديدة" . . بالطبع لم تعجبها إجابتي، أضافت قائلة "هل هناك مشكلة؟ أو أي شيء يضايقك! . . تكلمي ربما نجد الحل سوياً" قلت لها في هدوء "وهل هدوئي يدل على وجود مشكلة أو أي شيء يضايقني؟" فقالت وهي متعجبة "لا إن وجهك مضيء . . ويبدو أن صحتك تحسنت ولكن هناك سر غيرك تماماً" . . قلت لها "يكفي أنك تصفيني بهذا الوصف . . اطمئني، لا توجد مشكلة أو أي شيء يضايقني وأشكرك على شعورك" لن يفهم أحد ما بي . . إلا من اختبر حبك العجيب.

 

مرت الأيام طويلة وثقيلة . . ولكن أشكرك يا قدير . . انتهى العام الدراسي بسلام وبدأت الاجازة الصيفية . . سوف انطلق في كل مكان . . صباحاً . . ومساءً . . وقتي كله لك، بدأ أصدقائي المسيحيون يزوروني في منزلي . . قضينا أوقاتاً رائعة في دراسة الكتاب المقدس والترنيم والصلاة . . لم أكن أتوقع أبداً أنه هناك من يرصد تحركاتي . . من هم زواري! متى أخرج ومتى أعود ومع من؟ إنه صاحب البيت الذي أسكن فيه، وبدأ يتطاول بالكلام علي من يزوروني "أنا أعرفكم جيداً من انتم" . . "كثير منكم يزورها ويتردد عليها" . . "كثير من هذه النوعية يسأل عليها" لابد أن أترك هذه الشقة وانتقل إلى شقة أخرى . . ولكن كيف؟ هذا لا يتم بسهولة . . حاولت أن أنسى الموضوع واستمتع بحياتي مع الحبيب.

 

وفي صباح يوم السبت الموافق العاشر من يونية 1989 ذهبت مع بعض الأصدقاء في زيارة لدير الأنبا بيشوي . . طلب مني بعض الأباء الرهبان أن أسجل لهم شريط كاسيت، وأن اذكر لقائي الرائع برب المجد وعمل إلهنا القوي فيّ، وأن أذكر اسمي واسم كل من استخدمه الرب معي. وافقت وسجل الشريط ووعدني الجميع أن يكون هذا الشريط في سرية تامة ولن يخرج من الدير.

 

انتهت الإجازة الصيفية وبدأت عودة المدرسين إعدادا للعام الدراسي الجديد. في أول يوم ذهبت إلى المدرسة ومن أول لحظة عند دخولي من باب المدرسة انتابني شعور بالقلق . . كأن شيئاً يطبق على صدري لدرجة أني لا أستطيع التنفس . . وبعد لحظات قوبلت من الجميع بنظرات الاشمئزاز والسخرية . . تعجبت كيف يجرءون؟ انهم من كانوا يخافون الوقوف أمام باب مكتبي، يلاقوني بهذه النظرات!! . . أن بعضهم يوجه إلي كلمات لم أفهم معناها "خسرت الدنيا والآخرة" "ملعونة إلى يوم الدين" "إن قتلها رحمة" قلت في نفسي لابد أن أعرف السبب. ذهبت إلى حجرة وكيلة مسلمة لعلي أعرف ما حدث . . ولكنها عندما رأتني أدارت وجهها في غضب . .!! قلت لها "ما بك . . لماذا تقابليني بهذه الطريقة؟" ردت قائلة وهي تتعجب "ما بك . .! ألا تعرفين ما بي؟" قلت لها "صدقيني لا أعرف" قالت "أنا لا أصدقك، اقسمي أنك لا تعرفي" قلت لها "أنا لا اقسم ولا اعرض اسم الله للقسم" قالت "وهل تعرفين الله؟" قلت لها "طبعاً أعرف الله لا إله إلا الله" قالت وهي تصرخ في وجهي متحدية "أكمليها" حاولت أن أتظاهر أني لا أفهم ما تقصد وتظاهرت أني غاضبة وقلت "إلى هذا الحد يكون الكلام . . متأسفة لن يكون بيننا كلام مرة أخرى" انصرفت من أمامها مسرعة إلى مكتبي . . فهمت كل شيء . . ولكن كيف عرفوا . . كدت أن أفقد عقلي . . بعد لحظات حضرت إلى حجرة مكتبي زميلة مسيحية وأخبرتني أنه يوجد شريط من أشرطتي ذكرت فيه اسمي بالكامل واسم سامية ومفيد وغيرهم . . انتشر هذا الشريط واصبح متداولاً بين المسيحيين والمسلمين أيضاً ولذلك عرف الجميع . .! كيف انتشر هذا الشريط بهذه الطريقة ولم يمر على تسجيله إلا ثلاثة أسابيع، بالتحديد إحدى وعشرون يوماً . . وأين من عاهدني أنه سيكون في سرية تامة . . إني أكاد أن افقد توازني . . وكيف وصل إلى يد المسلمين؟ بدأت أنهار . . ماذا أفعل الآن؟ لم احتمل البقاء لحظة واحدة . . خرجت اجري إلى شقتي . . جرحي عميق . . أنا في حيرة . . ألقيت بنفسي بين يديك الكريمتين . . إلهي الحبيب ماذا أفعل؟ أنت تعلم أنهم في المدرسة يحاولون الاعتداء عليّ . . لا أستطيع أن أتحمل نظراتهم وكلماتهم التي يوجهونها إليّ . . أعن ضعفي يا سيدي. وجاء ردك يا قدير "قدمي استقالتك وغيري سكنك . . ولن يقوى أحد على أن يعتدي عليك أو يلمسك."

 

شكراً لك يا إلهي الحبيب أنت دائماً معي . . تجيبني . . لكن الاستقالة أمر سهل، وتغيير السكن؟!! لا لن أفكر . . أثق في تدبيرك . . بدأت أتماسك . . تذكرت . . اليوم يوجد اجتماع لابد أن أحضره، ربما أجد كلمة معزية أو رسالة من الرب. وكان أن التقيت بإحدى صديقاتي وإذ بها تقدم لي أحد أقربائها، إنه المهندس عيا . . إنسان مؤمن رقيق . . وجدته يسألني "هل أنت مرتاحة في سكنك؟" عرفت من قادني إلى الاجتماع؟ ولماذا؟ إنه الهي الطيب. أخبرته أني أريد أن أغير سكني وأن أسكن عند مسيحيين. رحب بالفكرة واخبرني أنه يعرف شقيقين مسيحيين يعملان في المقاولات ولديهم عمارة جديدة بها شقة صغيرة، وطلب مني أن أعطيه فرصة يومين. في صباح اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة وقدمت طلب استقالتي، وافقت عليه المديرة بسهولة عجيبة، توجهت إلى الإدارة التعليمية إلى مكتب المدير العام . . وافق عليه المدير العام أيضاً وأرسل الطلب إلى مكتب وكيل أول الوزارة في نفس اليوم، شعرت بيدك يا قدير تحرك كل شيء حسب إرادتك . . مجداً لك . . وقفت أصلي "إلهي أعن ضعفي . . قوني وساعدني كي لا أخاف منهم، اجعلهم هم يخافون مني، سد أفواههم وأعم عيونهم حتى لا يرونني، اجعلني اقف أمامهم بقوتك ومعونتك حتى تقبل استقالتي ويصلني رد الوزارة بالموافقة."

 

في مساء اليوم التالي اتصل بي المهندس عياد وقال: لقد وافق الشقيقان على أن اسكن عندهم في منزل ملك لهم مكون من خمس طوابق، وفي سطحه توجد شقة صغيرة عبارة عن حجرتين وصالة، وحدد لي موعداً للذهاب إلى منزلهم لكي أرى شقتي. كدت أن أطير من الفرح وجاء الموعد وذهبت . . إنها شقة جميلة ولكن لم يكتمل بناؤها . . وعدوني انهم سوف يكملونها في أقل من شهر . . وقفت أنظر وجدت أمامي كنيسة القديسة العذراء مريم . . أغمضت عيني لأصلي وإذ بي أشعر أن هناك شخصان كل منهما ممسك بذراعي ويحاولان إلقائي من أعلى. فتحت عيناي بسرعة لم أجد أحداً، يا له من رعب . . ماذا حدث لي؟ أهذا الشعور من شدة فرحتي؟ كتمت شعوري . . وانصرفت . . قررت أن أذهب إلى المنزل مرة أخرى بحجة أني أتابع العمل، وإذ بنفس الشعور ولكن بصورة أوضح وأقوى، لدرجة أني كدت أن أصرخ . . ولكن ماذا أفعل؟ انصرفت في هدوء وفي طريق عودتي صرخت إليك يا حبيب . . أنا لا أفهم معنى هذا الشعور؟ ماذا تقصد به؟ قلت في نفسي لابد أن أخبر أبونا بطرس ربما أجد عنده معنى لما حدث، ذهبت إلى الكنيسة . . أين "أبونا بطرس؟" لا أحد يعلم . . تضاربت الأقاويل . . بعضهم يقول أنه في إجازة والآخر يقول أنه مريض، لكني أشعر أن الأمر أكبر من ذلك. بعد لحظات حضرت إحدى الخادمات في الكنيسة وكانت الصدمة القاسية "أبونا بطرس" في أمن الدولة منذ يومين. بكيت بمرارة . . إنه بالنسبة لي حضن الأب، كنت أجد عنده الجواب لكل سؤال . . كنت ألقي بمشاكلي بين يديه الأمينة، أحببت المسيح الساكن في أعماق قلبه ونفسه . . لكن لا فائدة الآن يجب أن أصلي من أجله، إلهي الحنون الرقيق ساعده وقويه . . قدم له العون . . اعرف أنه بنعمتك قوي . . وساعدني أن أتحمل هذه الصدمة . . أن أحرم منه.

 

بدأت أتماسك عندما عرفت أن أبونا بطرس عاد إلى منزله وهو الآن يقيم في أحد الأديرة.

 

حان موعد انتقالي إلى الشقة الجديدة، كلما اقترب الموعد كلما ازداد داخلي شعور بالرعب . . لكن لا أستطيع التراجع ... . أخبرت صاحب المنزل الذي أسكن فيه أني سوف أترك السكن وبدأت بالفعل في جمع حاجياتي، وفي وسط هذه الحيرة اتصل بي المهندس عياد انه يريد أن يقابلني وبسرعة. خرجت لمقابلته وإذ به يقول "أصحاب المنزل الجديد يريدون أن يقابلوك" ذهبنا وقابلتهم وكانت الصدمة القاسية، قال لي أحدهم "اعتذر! لن أستطيع أن أؤجر لك الشقة" صرخت بكل أسى "لماذا؟" قال "كنت استشير صديقاً لنا في أمن الدولة أنك سوف تسكني عندنا ونصحني قائلاً إياك أن تقدم أي مساعدة لناهد . . لها مشكلة كبيرة في أمن الدولة، وكل من يقدم لها أي مساعدة سوف يعرض نفسه للمسؤولية."

 

كانت الصدمة قوية، تذكرت في الحال هذا الشعور الذي كان ينتابني في كل مرة اذهب لهذه الشقة، لكن إلقائي من أعلى المنزل أهون عندي من هذا العذاب. عدت إلى منزلي محطمة ضعيفة . . ألقيت بنفسي في حضنك الرحيم "إلهي إن جرحي أعمق من أن أتحمله . . إلهي أرسل لي عوناً سريعاً، قوني وساعدني أن أتحمل" جاء صوتك الحنون في قلبي "إن ما حدث لصالحك وسوف تعرفين هذا مؤخراً، والآن اهدأي وغداً ستجدي المنفذ في زيارتك للدير."

 

وفي صباح اليوم التالي ذهبت في رحلة لأديرة وادي النطرون، تقابلت مع المهندس سمير إنه إنسان مؤمن، رقيق، به نعمة المسيح وعندما عرف ما حدث لي وجدته يقول "لك عندي شقة في مدينة نصر، ملك لابن خالتي، انه يريد بيعها وقد أعلن ذلك في أحد الجرائد ولن تكون هناك أية مسؤولية" واتفقنا على موعد نلتقي فيه لأعرف رد صاحب الشقة.

 

عدت أمجدك يا حبيب . . إلهي أنت هو أنت كما عودتني، تمد يدك لتمسح دموعنا وتعصب جراحنا . . ما أعظم تدبيرك . . فهمت الآن تفسير هذا الشعور المرعب، إن الجميع يعرفون أني سوف انتقل إلى شقة جديدة ولذلك منعتني من الانتقال إليها ولكن لن يعرف أحد البتة عنواني الجديد. التقيت بسمير وتمت إجراءات شراء الشقة وكتبت عقد الشراء واستلمت المفاتيح. إنها عبارة عن حجرة واحدة وغرفة معيشة كبيرة، إسكان تعاوني في الحي العاشر من مدينة نصر، سعرها مناسب . . أشكرك يا ربي الحنون أنت دائماً تختار لنا الأفضل، دبرت لي ثمن الشقة، موقع الشقة بعيد جداً وفي منطقة تعتبر خالية من السكان تقريباً. وبدأ سمير في عمل الإصلاحات في الشقة وتركيب عداد نور حيث أن الشقة لم يسكن فيها أحد قبلي. طلبت منك يا حبيب أن يأتي رد الوزارة بالموافقة على استقالتي ونقلي إلى الشقة الجديدة في وقت واحد لكي لا اضطر للنزول من الحي العاشر إلى حلمية الزيتون، وكان ردك "سيكون ما طلبت في نهاية شهر أغسطس 1989."

 

قررت أن انتقل إلى شقتي الجديدة بعد أن ملأت قلبي بسلامك، جاء مفيد ومعه سيارة نقل وحضر أيضاً سمير وصديق ثالث . . باركه يا رب بكل بركة . . حافظ عليه من كل شر . . خرجت من منطقة عين شمس بسلام بعد أن قضيت فيها خمسة عشر شهراً. وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى الوزارة، وإذ بمدير مكتب وكيل أول الوزارة يقول "مبروك يا ناهد لقد وافق السيد وكيل أول الوزارة على استقالتك." لم يكن يخطر على بالي أبداً أنه سيأتي اليوم الذي أقدم فيه استقالتي بنفسي وأفرح كل هذا الفرح عندما تقبل استقالتي، ليس لي فرح إلا معك . . أخذت القرار وانطلقت إلى الإدارة التعليمية وكانت يداك يا حبيب تحركا كل شيء بمنتهى السرعة.

 

ذهبت إلى المدرسة كي أخبر مفيد وسامية، جلست في حجرتي على مكتبي لآخر مرة . . إن حجرة مكتبي أنيقة جداً مفروشة بالسجاد الأخضر ولون الحائط أبيض سكري والشباك أخضر نفس لون السجاد وبها ثلاثة مكاتب فخمة، مكتبي ومكتب وكيلة مسلمة ولكنها لا تجلس أبداً معي لأنها لا تحبني، ومكتب ثالث يتناوب عليه مدرستان تقومان بمساعدتي، وبها دولابي وخزانة حديدية كبيرة لوضع أسئلة الامتحانات وآلة الطباعة . . نظرت حولي لآخر مرة وقلت في نفسي كم تباهيت بنفسي وذكائي!! كم حاربت لكي تكون أهم الأعمال تحت يدي، كم استخدمت من أساليب غير مشرفة لكي أكون الكل في الكل، يا لسذاجتي إني الآن أترك كل شيء، معك لا أريد شيئاً، نعم إنه كله نفاية، فهمت كلمة بولس الرسول وعمق معناها. والآن أعلن بكل قوة أنه عندما نقع في حبك يا حبيب ونعرف مدى حبك لنا يهون كل شيء، لا إنه كلا شيء، أنت كل شيء . . جاء مفيد وجلس بجواري كالعادة، إني أشعر أنه ابني ونظرت إليه وتذكرت حينما سألته "لماذا يا مفيد تحملتني كل هذه الفترة، رغم أني كنت سليطة اللسان ولا أحسب أي حساب لمشاعر الآخرين" ورد علي قائلاً "سوف أخبرك بكل شيء. فمنذ حوالي عامين حين حولت أربع طالبات مسيحيات للتحقيق هن ومدرستي الدين المسيحي من أجل مجلة الحائط، عدت أصلي لله وأنا أبكي وأقول: لماذا يا رب تترك مثل هذه السيدة تهين أولادك بهذه الطريقة وترعبهم؟ وبعد أن استغرقت في النوم وجدتني أسير في غابة بها مجموعة كبيرة من الأشجار . . لكن الأشجار جافة عبارة عن الساق والأغصان فقط وتبدو كأنها لا حياة فيها، والأرض من شدة العطش والجفاف تبدو مشققة وكان المنظر يدعو إلى الاشئمزاز، وإذ بشجرة كبيرة يظهر بها ورق أخضر جميل نضر ويظهر بسرعة عجيبة وتمتد الأغصان إلى السماء، وقفت أمام الشجرة أتعجب من جمالها وأيضاً شجرة أخرى صغيرة منبثقة من الشجرة الكبيرة تخضر وتمتلئ بورق أخضر نضر وبسرعة عجيبة وقفت أتأمل الشجرتين وقلت في نفسي، عظيمة هي أعمالك يا رب ولكني لا أفهم ماذا تعني بهاتين الشجرتين فوجدت صوتاً عظيماً يقول "ابق بجوار ناهد وساند ناهد . . وغداً ستجد الله في ناهد" واستيقظت من نومي وأنا في أشد العجب مما رأيت، هل معقول أن ناهد تصبح شجرة مثمرة وأمجد الله فيها! ولكن هذا أمر الله ولابد أن أنفذه وبقيت بجوارك أساعدك وأبعد عنك أي ولي أمر يحاول التعدي عليك أو أي شيء يضايقك، حتى جاء اليوم الذي تعديت أنت على المدير العام المسيحية وقلت في نفسي لابد أن ما رأيت كان من الشيطان إنها سيدة مؤذية. وعدت إلى منزلي أبكي ندماً على المساعدات والحماية التي قدمتها لك، وفي تلك الليلة رأيت رؤية عجيبة، رأيت أني أسير في شارع واسع نظيف وإذ بأنوار تضئ في السماء فرفعت رأسي لأرى، فوجدت صليباً كبيراً مضيئاً حوله النجوم تضئ بأنوار ويظهر بجوار الصليب الكبير صليب آخر صغير مضيء، وحوله أيضاً نجوم تضئ وقلت في نفسي أنا لا أفهم يا ربي معنى هذا المنظر؟ وإذا بالصليب الكبير يختفي ويظهر وجهك مكانه والصليب الصغير يختفي ويظهر وجه ابنتك مكانه وقلت بصوت عالي وفي دهشة هل هذا معقول ناهد صليب كبير في السماء وابنتك . . لا هذا غير معقول! فتكرر هذا المنظر أمامي ثلاث مرات وجهك ثم الصليب ووجه ابنتك ثم الصليب وقلت في المرة الثالثة  أعلم يا ربي أنك قادر على كل شيء، وعندما استيقظت من نومي تأكدت أنك مدعوة للإيمان وشكرت الله على عظيم صنيعه معك ومع ابنتك، وانتظرت اليوم حتى جاء ومجدت الله وسأمجده دائماً أبداً وكتمت كل ما رأيت في صدري عامين كاملين أو أكثر حتى حقق الله ما أراني."

 

ونظرت إلى مفيد إنه ابني الحبيب، وتذكرت يوم رؤيتك يا حبيب وعندما أخبرته بما رأيت، واسترجعت أحداث عامين دراسيين وأنت تضئ حياتي بنورك، لقد مرت الأيام مسرعة بكل ما فيها من أحداث، وكان علي أن اختار ولكن أشكرك يا ربي لأنك جعلتني اختارك وقويتني أن أصمد للنهاية.

 

وحضرت الحبيبة سامية واحتضنتني . . إني أشعر أنها ابنتي وفي نفس الوقت أمي، إنه شعور عجيب لم أشعر به من قبل، إني أحبها جداً . . احبها في اسمك . . وسألتها لماذا لم تخافي مني كالباقين؟ لماذا كنت قوية واثقة من نفسك أمامي؟ ورغم تحذير الجميع لك مني لم تبالي، من أين لك كل هذه الشجاعة؟ نظرت إلي بكل حب وقالت: "حينما استلمت نشرة نقلي إلى مدرسة حلمية الزيتون الثانوية كانت صدمة بالنسبة لي، كيف سأعمل في هذه المدرسة مع ناهد الوكيلة المتعصبة التي لا تتورع في إيذاء أي مسيحي أو مسيحية، أيضاً مديرة المدرسة أنها متعصبة ضد المسيحيين . . ووقفت اصلي إلى الله وأسأله أن يدافع عني ويساعدني في تلك المدرسة، وبعد أن انتهيت من الصلاة وذهبت لأنام . . رأيت أني أقف فوق أرض رخامية بيضاء اللون عالية بعض الشيء عن الأرض. ونظيفة رغم أنها محاطة بالقاذورات، ولكن تلك القاذورات بعيدة عني لأني أعلى منها، ويوجد بجواري صنبور ماء وحوض صغير أبيض نظيف جداً . . جاء "البابا كيرلس" إنه قديس وكنت أحبه جداً وكنت أزوره باستمرار قبل نياحته وقال: "اغسلي يديك يا سامية" فقلت له: "إن يداي نظيفتان" كرر ثانياً: "اغسلي يديك" وغسلت يدي ثلاث مرات وكلما عدت إليه كان يكرر نفس الكلمة حتى المرة الثالثة، فأمسك بذراعي وقال: "هيا اذهبي إلى حلمية الزيتون الثانوية إنه لك هناك عمل خاص" . . عندما استيقظت من نومي قلت في نفسي أني سكرتيرة وهذا عملي ربما يكون لي مهمة أخرى سوف اعرفها فيما بعد، وبعد أن قابلتك وبدأت أكلمك عن السيد المسيح، عرفت أنك أنت المهمة الخاصة التي حضرت من أجلها إلى هذه المدرسة، وأحببتك رغم كل ما سمعته عنك، ورغم كل التصرفات التي تصرفت بها أمامي وشعرت برباط قوي بيني وبينك، والآن عرفت لماذا أحببتك! وهل يوجد رباط أقوى من رباط المحبة في المسيح، وعانقني وقالت: "أنت ابنتي، لقد ولدت الولادة الثانية على يدي، إني محظوظة أن أرى هذا بعيني وأن يستخدمني الله في مهمة خلاص إنسانة مثلك."

 

"إلهي ما أبعد أحكامك عن الفحص وطرقك عن الاستقصاء" كل هذا التدبير لأجلي أنا؟ . . خطة الرب العظيمة . . من يستطيع أن يصل إلى فكر القدير أو إلى تدبيره؟ منذ متى يا ربي وأنت تعد لي كل هذا وبهذا الصبر، أعلم أنك رؤوف ورحيم، طويل الأناة ولكن إلى هذا القدر يا حبيب يا لعظم محبتك يا ربي . . والآن لابد أن أسلم مفاتيح الحجرة والمكتب وكل شيء للمديرة . . لن أدخل حجرة مكتبي مرة أخرى، جمعت كل أوراقي الشخصية وأدواتي الخاصة، أنا غير نادمة على أي شيء غير ذلك الوقت الممتع الذي كنت أقضيه مع سامية ومفيد، لن أنسى أبداً أني رأيت أمي الحنون العذراء مريم في حجرتي . . ورائحة البخور . . إنه مكان ميلادي الجديد . . لكني أعلم جيداً أنك معي في كل مكان، وكيف لا . . وأنت ساكن في أعماق نفسي وقد توجتك ملكاً على عرش قلبي بلا شريك . . نعم بلا شريك وأنت تعلم هذا جيداً . . وأنت تعلم أني صادقة وهذا ما يهمني. لن أقول أني بعت كل ما أملك لكي أتبعك! لو قلت هذا فأنا أعطي نفسي مجداً لا استحقه! ولكن الحقيقة أنك قرعت على بابي وسمعت صوتك الجميل وساعدتني أن أفتح الباب، ودخلت إلي، وتعشيت معي، وملكت على فكري، وعقلي، وقلبي، وكنت أنت المتصرف لا أنا، وأنت الذي يقرر ويفكر، هذه هي الحقيقة، من يسلم نفسه للحبيب بكل صدق، يكون هو عينه الذي يرى بها وأذنه التي يسمع بها ولسانه الذي يتكلم به . . آه يا حبيب ليت الجميع يعرفون! أريد أن أصرخ وأتكلم عنك في كل وقت وفي كل مكان، والآن لقد تفرغت لك ما أطيب مذاقك يا ربي . . لابد أن أعلن بما اشعر وبما أحس أنه فوق العقل والخيال، ليتني أجد الكلمات المناسبة لوصف ما أشعر به، ساعدني يا إلهي.

 

وخرجت من المدرسة ولكن علي أن أعود مرة أخرى لإخلاء طرفي وسيكون ذلك بعد صدور قرار الإدارة، أي بعد عشرة أيام تقريباً. تأكدت يا إلهي أنك صادق الوعد أمين! لقد انتقلت من شقتي القديمة بعين شمس إلى أخرى جديدة بمدينة نصر في السادس والعشرين من أغسطس وقبلت استقالتي في السابع والعشرين أنه كما وعدتني، شكراً! إن شقتي في الحي العاشر مكان هادئ جداً وأغلبية المساكن غير آهلة بالسكان لن يرصد أحد تحركاتي . . لا أحد يعرف من أنا . . ليس لي اختلاط بأحد ولن يعرفني أي ساكن . . وبدأت أزاول نشاطي في الكنائس وأتكلم عن معاملات الحبيب معي في كل مكان، في الأديرة، في منازل الأصدقاء كلما أتيحت لي الفرصة.

 

ذهبت إلى المدرسة يوم في التاسع من سبتمبر لأخلي طرفي من المدرسة ولا أعود أدخلها مرة ثانية، إن قلبي ينبض بسرعة عجيبة ولكن أنت معي تسير بوجهك أمامي لتنير لي الطريق، دخلت مكتب المديرة لتوقع على إخلاء طرفي وإذا بالمديرة تغلق الباب خلفي، وتستدعي إحدى الوكيلات المسلمات وتطلب من المشرفة أن تقف خلف الباب ولا تسمح لأحد بالدخول، قالت وعلامات الشر تعلو وجهها "قبل أن أوقع لك أريد أن أعرف حقيقة ما سمعته عنك" فقلت لها في هدوء "وما الذي تريدين أن تعرفي حقيقته" قالت "هل أنت الآن مسيحية؟" قلت لها "عليك أن تسألي من قال لك هذا الكلام" فرفعت الوكيلة صوتها قائلة "لا نريد مراوغة!! عليك بالإجابة بكل وضوح وصراحة" فرفعت صوتي أعلى من صوتها وقلت "أنا سيدة عمري 47 سنة ومتعلمة حاصلة على بكالوريوس تربية ولن أسمح لأحد التدخل في حياتي" وفوجئت بالوكيلة مندفعة نحوي وتجذبني بقوة آلمتني من ذراعي وهي تقول "أنت أختي في الإسلام والإسلام يقول أنه من رأى منكم منكراً لابد أن يقومه وأنا سوف أقومك بكل قوة" ورفعت قلبي إلى الله وقلت في نفسي "اللهم التفت إلى معونتي يا رب، أسرع وأعني" وقلت لها في هدوء "من أين لك هذا الكلام الذي تقوليه؟" فأسرعت المديرة نحوي وشعرت أنها تحاول تهدئة الموقف وقالت "هل أنت قلت أنك قمت بعمل مقارنة بين الدين الإسلامي والدين المسيحي ووجدت بعد الدراسة أن الدين المسيحي هو الدين المضبوط؟" فقلت لها بكل ثقة "لا . . أنا لم أقل هذا الكلام" ثم أضافت "هل أنت قلت أن السيدة مريم قالت لك كف يدك عن إيذاء المسيحيين؟" وأيضاً قلت بكل ثقة "لا . . أنا لم أقل هذا الكلام" ولكني خفت أن أكون بهذا الرد قد أنكرت السيد المسيح فقلت لها "إن ما قلته أني رأيت رؤية عبارة عن إنسان (ووصفته) جميل أبيض اللون، وشعره أصفر منسدل إلى كتفيه وعيناه زرقاء صافية كمياه البحر وكلمني وأخذ مني عهداً وأنا احترم ذلك العهد الذي عاهدته" فقالت لي "ومن هو يكون؟" فقلت "ملاك الرب" وهنا صرخ الاثنان معاً "لقد تأكدنا أن طريقة كلامك غير مريحة وردودك تثير الشك، إنك لا تستحقي الحياة ولا تستحقي أن تأخذي من الحكومة معاشاً وسوف تدفعين الثمن غالياً" وهنا وجدتني أصرخ في المديرة بقوة عجيبة "وقعي على الورق . . هيا وقعي" . . ووجدت المديرة تجلس على المكتب في هدوء وتوقع ورق إخلاء طرفي بسرعة غير عادية. وتمد يدها لتعطيني الورق فأخذته وجريت نحو الباب، وجدت كرسياً كبيراً موضوعاً خلف الباب لمنعي من الخروج ولكني طوحته إلى الأرض ولا أعرف من أين لي هذه القوة . . خرجت مسرعة إلى الباب الخارجي وحاولت المديرة والوكيلة أن يلحقا بي ولكنهما لم تتمكنا، وإذ بي أخرج من باب المدرسة إلى الشارع وسط ذهول الجميع وذهولي أنا أيضاً. كيف خرجت من وسطهم بسلام؟! وهنا التقطت أنفاسي، لا أستطيع أن أصدق نفسي! ما هذا الذي حدث؟ ولماذا؟ ومشيت في الشارع أبكي من شدة الألم واسترجع كل ما حدث ورفعت قلبي لك يا حبيب، سامحني يا قدير أعلم أني ضعيفة . . أرجوك يا إلهي أعن ضعفي وقوني واغفر لي، ذهبت بعد ذلك إلى الكنيسة . . إني أشعر وأنا في الكنيسة أني في حضنك الرحيم . . قابلت بعض الأصدقاء واخبروني أنه يوجد من حضر إلى الكنيسة يسأل عني، ومن طريقة كلامه عرفوا أنه غير مسيحي وأنه يتكلم كمن له سلطان وانه ينتظرني بالداخل، ولكني رفضت أن أقابله وانصرفت مسرعة إلى شقتي. إن جرحي من المديرة والوكيلة لا زال ينزف ولن أتحمل أي جرح آخر . . وجلست بيد يديك الكريمتين وسألتك ماذا أفعل الآن؟ وجاء ردك في صدري "لابد أن تسافري من هنا" شعرت أن قلبي يعتصر من شدة الألم، إنه لم يمر علي في شقتي الجديدة أسبوعان! وأين أذهب؟ ليس لي سواك فقد رفضني الجميع . . الجميع ابتعدوا عني انهم خائفون مني . . وفي صباح اليوم التالي خرجت لاتصل تليفونياً بمفيد، إنه قوي بنعمة المسيح، لابد أن سوف يمد لي يد المساعدة كما تعودت أن أجده دائماً وكانت الصدمة التي هزت كياني . . لقد تم القبض على مفيد وهو الآن في السجن . . مفيد في السجن! يا للعجب لماذا؟ وأي جريمة ارتكبها لكي يوضع في السجن . . رحمتك يا إلهي . . أنا أعرف جيداً أنه ابنك وأنت تحبه أكثر من حبه له، ولكن قلبي يتمزق من شدة الألم . . إنه في السجن بسببي . . لا إنها إرادتك . . ولتكن إرادتك لا إرادتي، بيدك كل شيء . . وعدت إلى شقتي وإذا بصوتك الحبيب يقول "لابد أن تسافري من هنا" وبينما أنا في حيرة حضرت إلي ابنتي وهي تقول "حضر أمس إلى منزلنا البوليس وهم يسألون عنك وأخبرناهم أننا لا نعرف عنوانك الجديد وذهبوا إلى المدرسة أيضاً وأخبرتهم المديرة أنك أخليت طرفك منذ يومين ولا أحد يعرف طريقك أو عنوانك" نعم يا إلهي إن عنايتك ورعايتك تحيط بي، إني أشعر بذراعك القوية تمسك بي، يحضر البوليس إلى المدرسة بعد إخلاء طرفي بيومين وأكون قد غيرت عنواني وانتقلت إلى شقة مدينة نصر ولا أحد يعرف طريقها . . الآن فهمت لماذا قلت لي عندما فقدت شقة الزيتون إن ما حدث لصالحي! نعم إن الجميع في المدرسة كانوا يعرفون أني سوف انتقل إلى شقة جديدة بالزيتون، ولكن أنها خطة القدير! يحافظ علي . . إنها الحقيقة، لقد لمستها بنفسي أن من يسلمك نفسه بصدق تكون أنت المدبر لكل حياته وتحركاته لك المجد الدائم، إن تدبيرك يفوق كل عقل، وتذكرت تلك الآية التي كتبها لي "أبونا بطرس" وطلب مني أن احفظها واضعها أمامي دائماً وهي واردة في مراثي أرميا 3: 37 "من ذا الذي يقول فيكون والرب لم يأمر."

 

قررت بعد أن سمعت صوتك الحبيب بكل وضوح أن أسافر إلى الإسكندرية، لكن ينبغي أن أنهي إجراءات المعاش أولاً في الإدارة التعليمية، وذهبت إلى الإدارة ولكني قبل أن أدخل مبنى الإدارة شعرت بعدم ارتياح وبقلق شديد . . تغلبت على مشاعري ودخلت وأنا أردد "اللهم إلى معونتي يا رب أسرع وأعني" وتم كل شيء بسرعة عجيبة، إن يديك الرحيمتين تحركا كل شيء، وباق أن استلم شيك مكافئة إنها خدمة، عبارة عن مرتب ثلاثة أشهر، ولكنه سوف يستغرق بعض الوقت ولا بد أن أعود مرة أخرى بعد أسبوع لاستلمه، لابد أن أسافر ثم أعود بعد أسبوع لاستلم الشيك أو أرسل ابنتي لتستلمه، إن الجميع يعرفون أنها ابنتي. عدت إلى شقتي لأعد للسفر إلى الإسكندرية ولم يخطر على بالي أبداً أني لن أعود إلى شقتي الجديدة مرة أخرى، لقد أنفقت كل ما أملك في شراء تلك الشقة وعمل الإصلاحات اللازمة والتركيبات الجديدة الضرورية. إن بها كل الأجهزة الكهربائية . . إنها بسيطة ومريحة ولكن لتكن إرادتك لا إرادتي، وفي السادسة من صباح اليوم التالي أخذني أحد الأصدقاء بسيارته الخاصة وانطلقنا إلى الإسكندرية، وفي الطريق طلبت منه أن نمر على دير الأنبا بيشوي وتوقفنا هناك، ورحت أسلم على الآباء الرهبان ووقفت أمام من وعدني أن يبقى الشريط الذي سجلته في الدير وألا يخرج خارج الدير أبداً، نظرت إليه عاتبة ليرى ماذا فعل بي! وأين مفيد الآن! وماذا سيجري لسامية ولكني أعلم جيداً أنها إرادتك أنت ولن أتدخل . . لقد سلمتك نفسي وحياتي وكل ما أملك، افعل بي ما تشاء وأنت أبي الحنون ولابد أن أترك كل شيء حتى أكون مستحقة أن احمل اسمك المبارك العظيم.

 

وصلت إلى الإسكندرية واستقبلنا بعض الأصدقاء وأوصلوني إلى فيلا العجمي، إنه مكان بعيد هادئ وجميع المصيفين قد عادوا ولا يوجد غيري في المكان. عاد الجميع إلى القاهرة وتركوني وحدي، طلبت من أبنتي أن تذهب إلى المنطقة لتستلم الشيك وتخبرني ماذا تم حتى أعود للقاهرة لأصرف الشيك حيث أنه الشيء الوحيد الذي امتلكه الآن.

 

انفردت بك يا حبيب وارتميت عند قدميك . . إلهي إني أتألم! إني أحمل حملاً ثقيلاً . . ساعدني أن ألقي بأحمالي عندك . . ضمني إلى صدرك الرحيم وامسح دمعي ودم جراحي . . مجداً لك أنك تجعل لنا دائماً في كل ضيقة تعزية، ولن أنسى أبداً ما رأيت في أول ليلة أقضيها معك في الإسكندرية، لقد رأيت وجهك الحبيب والدم يسيل منه ونظرت إلي بإشفاق، وأنت من تألمت من أجلي أشد الآلام، تذكرت آلامك! سامحني يا إلهي، إنه ينبغي أن أشعر كم تألمت من أجلي وينبغي أيضاً أن أتألم أنا أيضاً من أجلك، لكن أعن ضعفي . . قوني وساعدني كي أكون مستعدة أن أحمل صليبي وأتبعك.

ومرت أيام ثقيلة وطويلة حتى نهاية الأسبوع، حضرت ابنتي مع بعض الأصدقاء وقالت أنها عندما ذهبت لاستلام الشيك رفض الموظف المسؤول تسليمه لها وقال "أنه لابد من حضوري بنفسي" . . تركتهم وتوجهت لشقيقتي، إنها تعمل بالإدارة، مديرة العلاقات العامة، وطلبت منها أن تحاول هي استلام الشيك نيابة عني ولكن الموظف المسؤول رفض أيضاً تسليم الشيك لشقيقتي بناء على أوامر مدير عام الإدارة، لأني مطلوبة لأمن الدولة وبعد ذلك أرسلت لي شقيقتي رسالة مع ابنتي والرسالة عبارة عن أنه علي أن أختار واحدة من ثلاث:-

 

الاختيار الأول: أن أذهب إلى أمن الدولة مع شقيقتي وزوجها حيث أنه ضابط بالمخابرات العامة وأيضاً زوج شقيقتي الصغرى وهو ضابط طيار برئاسة الجمهورية وأقول لهم أن هذا الشريط كذب، وأني كذبت بتحريض من بعض الآباء الكهنة وعلى رأسهم "أبونا بطرس" وأنهم أغروني، وأسجل شريطاً آخراً بصوتي أكذب فيه الشريط الأول وبذلك أكون بر الأمان ولن أتعرض لأي متاعب.

 

الاختيار الثاني: إذا رفضت الاختيار الأول فسوف تقوم العائلة بوضعي في مستشفى للأمراض العقلية، وسوف يشهد جميع أفراد العائلة أني مجنونة من يوم ميلادي، وبالطبع سوف يصدقونهم وذلك للمراكز المرموقة التي يشغلها أفراد الأسرة حيث أن لي شقيقتين أخريين، زوج الكبرى وكيل أول ونائب وزير الحكم المحلي وزوج الأخرى أستاذ اللغة الإنجليزية في كلية اللغات والترجمة، إلى جانب الضابط بالمخابرات والطيار برئاسة الجمهورية وأخي المدير بالجهاز العام للتنظيم والإدارة.

 

الاختيار الثالث: إنه في استطاعتهم خطفي وقتلي ودفني دون أن يسأل أحد عني، وأنهم قاموا بالفعل بعمل بلاغ بأني مفقودة ويريدون البحث عني، كما أني لن أستطيع السفر إلى الخارج وذلك لأنهم قاموا بإبلاغ جميع المطارات والمواني أني مطلوبة وصورتي في كل مكان.

 

سألت نفسي لا . . لا يمكن أن تكون شقيقتي جادة . . هل هذا معقول؟ لابد أنها تهددني فقط . . قررت أن أتصل بها حتى أتأكد . . أتصل بها الآن. اتصلت بها . . ليتني لم أتصل بها . . إنها تقسم لي بكل قسم أنها ستنفذ ما قالته في الاختيار الثالث إذا لم أختار بين الأول والثاني أيضاً زوجها – إنه يعمل في المخابرات العامة – لقد أكد لي أنه سوف يقبض علي في ظرف يومين وسوف يرغمني أن أفعل ما يريد. أهكذا تتغير القلوب وتصبح حجرية . . إنها أشد قساوة من الحجر . . أشعر أن الدنيا كلها أضيق من ثقب إبرة . . ضاقت بي نفسي، اشتهي الموت . . ليتني أموت الآن. عندما سمع أصحاب الفيلا ما حدث طلبوا مني أن أخرج إلى مكان آخر لأنهم خائفين ولا يريدون التعرض للمسؤولية.

 

ولكنك يا قدير لا تدخلنا في تجربة وتتركنا، بل مع التجربة تعطي المنفذ. وتضيف ابنتي: لقد عرف المهندس سمير كل شيء وسوف يحضر بعد ساعتين تقريباً ليأخذك إلى شقة في المعمورة، إنها أيضاً شقة للمصيف في منزل ولا يوجد سكان وتستطيعين أن تقيمي هناك. جاء سمير وأخذني إلى شقته ثم عاد الجميع إلى القاهرة وتركوني وحدي، لكني لست وحدي! إلهي الحبيب أنت مؤنس وحدتي . . أنت أهلي وأقاربي . . يكفيني حبك وحنانك.

 

مرت ثلاثة أيام وإذا بصوتك الحبيب يوقظني قبل طلوع الشمس قائلاً "يجب أن أخرج من شقة سمير بأقصى سرعة" تعجبت وصرخت إليك يا حبيب . . أين أذهب؟ ولماذا أخرج؟ لم تمض إلا ساعات قليلة وإذا بإبنتي تتصل بي تليفونياً وتخبرني أن أمن الدولة قبض على سمير ويجب أن أترك شقته بأقصى سرعة، ألقيت بنفسي بين يديك الرحيمتين . . إلهي ماذا أفعل الآن؟ وإذا بصوتك الحنون يرشدني أن أذهب إلى الدير وسوف أجد الحل، وبالفعل ذهبت وإذ بأحد الآباء يستقبلني فرحاً قائلاً "كنت أصلي أن يرشدك الله للحضور" وأضاف قائلاً "يوجد صديق مؤمن عندما عرف ما حدث لك أعطانا مفتاح شقته الخاصة بالإسكندرية في وسط المدينة أمام البحر مباشرة في عمارة كبيرة، لكن لا يوجد هناك أحد بالعمارة لأنها مصيف وهو مستعد أن تقيمي هناك أطول فترة ممكنة."

 

إلهي الحبيب لو ظللت أمجدك وأشكرك وأسبحك مع كل نفس يخرج من صدري لن أوفيك، لو ظللت ساجدة بين قدميك الكريمتين حتى آخر لحظة من عمري لن يكفي . . لكن أنت هكذا دائماً تجرح وتعصب . . تسحق ويداك الحنونة تشفيان.

 

في نفس الوقت وجه إلي "أبونا" لقضاء يومين مع أسرته في قليوب، كنت قد اعتدت أن أتصل تليفونياً بأولادي من حين لآخر لكي اطمئن عليهم، وفي آخر مكالمة طلبت مني ابنتي الصغرى أن لا أتصل بها عند جيرانهم بحجة أنهم يخجلون، وطلبت أن اتصل بهم في شقة أختي الصغرى حيث أنها ستكون بجوار أولادي. شعرت بعدم الراحة من طلب ابنتي . . ولكن لماذا؟ إن جارتها سيدة فاضلة وكذلك أولادها في كل مرة كنت أكلمهم تسرع في طلب أولادي، سألت ابنتي "إياك أن تكون هناك مؤامرة؟" ردت مؤكدة أنه لا توجد مؤامرة وأني أصبحت أخاف أكثر من اللازم . . حددنا موعداً كي أجدهم عند خالتهم. جاء الموعد المحدد واتصلت بهم من منزل أسرة "أبونا،" لاحظت أن ابني يحاول إطالة المكالمة بحجة أنه يريد أن يطمئن علي . . وأيضاً أختي أنها تريد أن تساعدني . . ولكن كان هناك شعور قلق يكاد أن يقتلني. انتهت المكالمة التي استغرقت حوالي 15 – 20 دقيقة وجاء صوتك في صدري "لقد دبروا لك كمين استطاعوا أن يلتقطوا رقم تليفون أسرة أبونا" وبعد أقل من نصف ساعة رن جرس التليفون وإذ بمن يريد معرفة اسم وعنوان صاحب التليفون بحجة وصول طرد من الخارج ولا يوجد عليه اسم أو عنوان بل رقم تليفون فقط وفي الحال فهمت لماذا طلبت ابنتي أن أتصل بها في منزل شقيقتي فإن زوجها برئاسة الجمهورية، وبالطبع استطاع أن يلتقط رقم تليفون "أبونا" وهكذا أنت دائماً يا قدير تصيبهم بالغباء إلى هذا الحد، لم يستطيعوا أن يصبروا ساعات قليلة حتى يصلوا إلى الاسم والعنوان، وكان التحذير لي أن أهرب صادراً منهم . . يا للعجب. خرجت مسرعة، إن قلبي يكاد أن يتمزق من شدة الألم . . أختي وابني وابنتي يدبرون لي كميناً . . مع أمن الدولة، ابني الكبير . . ابن عمري . . وابنتي الصغرى الغالية وأختي . . أكاد أن أفقد عقلي. لا أستطيع أن أصدق ما حدث! لكن . . إنه مكتوب "وسيسلم الأخ أخيه إلى الموت والأب ولده. ويقوم الأولاد على والديهم ويقتلونهم. وتكونون مبغضين من الجميع من أجل اسمي، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص"

 

إلهي لي رجاء فيك، ساعدني أن اصبر حتى ألاقيك.

أشكرك يا إلهي أنت تقويني وتساندني، أجدك دائماً بجواري.

أشكرك يا إلهي أنك تجعلني بنعمتك المعطاة لي، أقوى من التجربة.

أشكرك يا إلهي أنك جعلتني مستأهلة، أن أتألم من أجل أسمك.

ذهبت إلى دير مار مينا لأقضي هناك ثلاثة أيام دون أن أخبر أحداً من أنا، كنت أستيقظ مبكرة لحضور القداس والتناول وأقضي بقية الوقت في الصلاة . . بدأت أتماسك وأشعر بالراحة والهدوء.

 

وفي اليوم الرابع فوجئت بشقيق أبونا الذي كنت أقيم عنده قادماً ليأخذني وسألته "هل عرف البوليس اسمك وعنوانك؟" قال "بكل تأكيد لا، لم يحضر البوليس، يبدو أنه من خوفك أصبحت تتوهمين أشياء لا وجود لها، هيا بنا نعود لنقضي معاً بعض الوقت" لكن شكله وطريقة كلامه غير مريحة بالمرة، ماذا أفعل الآن؟ ليس أمامي اختيار آخر، جمعت حاجياتي وفيما أنا ذاهبة معه لأركب السيارة جاء صوتك الحبيب في صدري "إن هذا الرجل قادم ليسلمك للبوليس" تملكني شعور بالرعب . . إلهي ماذا أفعل؟ أأتركه وأنصرف إلى الإسكندرية! ولكنه أيضاً يعرف عنواني في الإسكندرية . . أنا في حيرة . . ركبت معه السيارة ورفعت قلبي إليك يا حبيب "إلهي لا أريد أن أقع في أيديهم . . إنهم وحوش لن يرحموني . . هل ستتركني لهم؟" وجاء ردك يا قدير "لا تخاف سوف أنقذك في الوقت المناسب ليعرف الجميع ويمجدوني" قلت "إلهي أعن ضعفي، وسامحني . . إن كنت فعلاً سوف تنقذني أعطني علامة قوية لأني خائفة، إن السماء تمطر والسحب تحجب الشمس الآن، دع المطر ينقطع في الحال وتختفي السحب وتطلع الشمس." لم تمر إلا لحظة وإذ بالمطر ينقطع ويد القدير تبعد السحاب وتسطع الشمس، أشكرك يا إلهي ملأت قلبي بسلامك. لاحظت أنه يقود السيارة بسرعة تتراوح ما بين ستين وسبعين كيلومترات في الساعة في طريق مصر – الإسكندرية الصحراوي، وبين الحين والحين ينظر خلفه. تظاهرت أني لا أفهم شيئاً وسألته "لماذا تقود سيارتك بهذا البطء؟" رد قائلاً "إن في السيارة عيب فني ولا أريد أن أزيد السرعة لكي لا تعطل" وفي الطريق سمعت صوتك الرحيم قائلاً "توقفي هنا عند مزرعة دير الأنبا بيشوي وسوف تريد عملي" طلبت منه أن نمر على مزرعة الدير ولكنه رفض في بادئ الأمر ثم بعد لحظات وافق بعد إلحاحي عليه على شرط ألا نمكث هناك إلا دقائق نسلم على الأباء وننصرف في الحال. وكانت المفاجأة! أنهم يعرفون تفاصيل ما حدث وبدى الذهول على الجميع "أين أنت ألم تعرفي أن البوليس هجم على منزل أسرة "أبونا" بعد منتصف الليل؟ وقبضوا على الجميع! كانت الصدمة قوية وعنيفة رغم أني أعرف ولكن . . نظرت إلى شقيق "أبونا" عاتبة، قال "سامحيني لقد ضعفت عندما رأيتهم يضربون أبي الرجل المسن بكل وحشية." قلت له "لقد سامحتك وليسامحك الله ولكن الآن عليك أن تنصرف بمفردك" قال "لا . . أرجوك لابد أن تحضري معي" قلت له "هل أنا مجنونة . . اذهب إليهم بنفسي، بالأمس سجل لي شقيقك شريط كاسيت وطلب مني أن أذكر اسمي بالكامل واسم كل من استخدمهم الرب معي ووعدني أن يكون في سرية تامة ويكون هذا الشريط وثيقة خاصة بالدير . . ولكن فوجئت به يغطي مصر كلها، واليوم أجدك تحاول أن تسلمني للبوليس . .!" يا لعذابي! إني أشعر بالمرارة . . أكاد أن أتمزق، لقد عرفت الآن كيف يكون شعور الإنسان عندما يتعرض للخيانة، سامحني يا ربي أنا لا أدين أحداً . . نحن ضعفاء . . إن لم نلتمس منك العون لا نحتمل شيئاً. عرفت الآن يا حبيب مدى ألمك وعذابك عندما تعرضت لخيانة أحد تلاميذك، أشكرك يا إلهي الحبيب لقد جعلتني أعيش جزءاً صغيراً من آلامك، والآن ماذا أفعل؟ التف حولي رهبان مزرعة دير الأنبا بيشوى وقال أحدهم "لابد أن تسلمي نفسك للبوليس، لا فائدة من هروبك لقد ضاقت الحلقة حولك ولا مفر" وقال آخر "لقد رأيتك في رؤية وحول رقبتك دم وهذا معناه أنك سوف تقتلي" وقال ثالث "ألا تريدين أن تكوني شهيدة من أجل المسيح وينادي عليك ربنا يسوع المسيح ويقول لك: تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم منذ تأسيس العالم . ." شعرت كأن كل واحد منهم ممسك بسكين ويمزق في لحمي بدون رحمة أو شفقة، وقلت في نفسي ربما يكون كلامهم هو الحق ولابد أن أسلم نفسي، فتحت حقيبة يدي وأخرجت محتوياتها وسلمتها لهم وقررت أن أسلم نفسي ولكن لابد أن أذهب أولاً للإسكندرية وأجمع جميع حاجياتي حتى لا يجدها البوليس في هذه الشقة وأعرض صاحب الشقة للمسؤولية، وأيضاً ينبغي أن أسلم ابنتي لوالدها حتى لا تتعرض هي أيضاً لما سأتعرض أنا له وأنا أعرف جيداً ما ينتظرني في أمن الدولة، ولكني واثقة أنه الحبيب الذي كان مع الفتية الثلاث في أتون النار سيكون معي وسينقذني . . وكيف لا! وأنا أشعر أني ابنته المدللة. تركت شقيق "أبونا" ينصرف بمفرده ووقفت أنا وابنتي نوقف سيارة إلى الرست، ومن الرست نستقل الأتوبيس إلى الإسكندرية، وبالفعل وقفت لنا سيارة نقل بضائع صغيرة وركبت أنا وابنتي حتى الرست ووقفنا هناك نوقف أي سيارة أجرة متجهة إلى الإسكندرية ولكننا لم نجد، انتظرنا حوالي ساعة حتى جاء الأتوبيس . . ركبنا، وفي الطريق رفعت قلبي لك يا حبيب وقلت لك "هل هذه هي النهاية أن أسلم نفسي إلى أمن الدولة أنت تعرفهم وتعرف وحشيتهم وأنا ضعيفة، أعن ضعفي ربما لا احتمل تعذيبهم، أجبني ماذا أفعل؟" وجاء رد إلهي الحنون الطيب "لو كنت أريدك أن تقعي في أيديهم لما أخبرتك أنه قادم ليسلمك، وقلت لك "مري على مزرعة دير الأنبا بيشوي لتعرفي الحقيقة وأعطيتك علامة أنك لن تقعي في أيديهم؟" لا . . لا تسلمي نفسك، عودي إلى الإسكندرية واختبئ هناك" إلهي ما أعظمك! أنت إلهي الحي الحنون تشعرني وكأنه لا يوجد أحد على الأرض غيري تراقبه وتدافع عنه وتحافظ عليه، تشعرني وكأني وحدي موضع اهتمامك ورعايتك، يا لعظم محبتك أحبك يا إلهي لأنك فعلاً تستحق الحب لأنك أحببتني أولاً ثم جعلتني أحبك وأعرفك وأثق فيك.

 

وصلت إلى الإسكندرية متعبة منهكة القوى ولكن سلامك الذي يفوق كل عقل يملأ قلبي ونفسي، لابد أن أغير مسكني وأذهب إلى مكان آخر . . ربما يخبرهم هذا الصديق عنواني ويأتوا إليّ ولكن الوقت متأخر وبينما أنا في هذا الحوار مع نفسي أرى وجهك الحبيب الجميل يضئ الظلمة التي حولي ويشعرني بالأمان، قررت أن أبقى هذه الليلة وأذهب غداً إن شاء الله أبحث عن شقة أخرى، وفي صباح اليوم التالي قادني الحبيب إلى أسرة مسيحية مؤمنة عندهم شقة مفروشة صغيرة استأجرتها منهم وانتقلت إلى هذه الشقة أنا وابنتي ولم أخبر هذه الأسرة من أنا لكي أمكث أطول فترة ممكنة في هدوء. اتصلت تليفونياً بأصدقاء القاهرة ووجدت أحدهم من كان يكلمني لا يصدق أذنيه وقال "هل أنت فعلاً ناهد! لا أستطيع أن أصدق نفسي لقد سمعنا أن أمن الدولة القي القبض عليك وأنهم قتلوك بعد ذلك ابق في مكانك ولا تخرجي لمدة أسبوع حتى نحضر إليك ونعرف كل شيء" وحاولت أن أبقى بالمنزل ولا أخرج إلا للضرورة وفي أحد الأيام فوجئت بزوجة صاحب الشقة تدق جرس الباب وعندما استقبلتها وجدتها تقول "هل سمعت عن السيدة المسلمة التي آمنت بالسيد المسيح وأصبحت مسيحية واسمها ناهد" قلت لها وأنا ارتعد من شدة الخوف "نعم سمعت عنها" قالت في فرحة شديدة "لقد أحضرنا الشريط الكاسيت المسجل بصوتها تروي فيه كيف آمنت بعد أن رأت السيد المسيح في رؤيا وكلمها" قلت لها وهل تصدقيها؟" قالت: "نعم بكل تأكيد فما الذي يدعو سيدة في مركزها ومن أسرة كبيرة أن تعرض نفسها لهذا الخطر! إن لم يكن كل ما تقوله صدق وحقيقة" مجداً لك في هذا كفاية لي . . يكفيني انك اخترتني، وليس لبر في ذاتي ولكنك تعطي من غنى مجدك ولا تعير، أشكرك سأظل باقي عمري أشكرك مع كل نفس اتنفسه ولن أفي بشكرك. ذهبت معها وسمعت الشريط وكأني أسمعه لأول مرة وعشت معك لحظة بلحظة. ما أروعك يا إلهي! ما أعظمك! ما أحلاك! أنت أحلى ما في الوجود ولم أجد شيئاً أشبهك به فليس لك شبيه، وبعد أن سمعنا الشريط قالت "إن البوليس يعرف أنها في الإسكندرية ويقوم الآن بالبحث عنها." لابد أن أترك الإسكندرية وأذهب إلى مكان آخر ولكن يجب أن أنتظر حتى يحضر إلي من ينقلني إلى مكان آخر. بعد يومين حضر إلي صديق أثق فيه ولم يصدق نفسه حين رآني وقال "عرفنا أنك اتصلت تليفونياً بأولادك عن طريق شقيقتك وأنها كانت مدبرة هذا مع أولادك لإلتقاط رقم التليفون عن طريق الذي سوف تتصلي به ويعرفون طريقك، وتم بالفعل التقاط رقم التليفون عن طريق أمن الدولة وبعد ذلك عرفوا اسم وعنوان صاحب التليفون وذهب البوليس في منتصف الليل إلى العنوان وفتشوا المكان جيداً، وعندما لم يجدوك قبضوا على كل من في هذا العنوان وضربوهم بمنتهى القسوة وعذبوهم. اضطر هذا الصديق تحت الضغط والضرب والتعذيب أن يحاول أن يسلمك لهم، اتفق مع البوليس أن يذهب إليك في دير مار مينا ويسلمك لهم، كانت ترافقه سيارتان ملاكي من أمن الدولة وسارتا خلف السيارة التي ركبتيها أنت وابنتك وحين توقفت في مزرعة دير الأنبا بيشوي سبقتكم السيارتان إلى الرست وبعد ذلك انتظرت السيارتين حين جاءت سيارة هذا الصديق وظنوا أنك لا زلت داخل السيارة. ساروا خلف سيارته حتى مدخل القاهرة أي بعد ساعة ونصف ساعة واكتشفوا أنك غير موجودة بالسيارة فأوقفوا جميع السيارات المتجهة إلى القاهرة وفتشوها وعندما لم يجدوك، ذهبوا إلى مزرعة دير الأنبا بيشوي على أمل أن يجدونك هناك وبعد ذلك أشاعوا أنهم قتلوك وأنت تجري في الصحراء محاولة الهرب منهم وتركوك هناك، أما هذا الصديق فهو الآن في السجن يعذب. وأيضاً قبضوا على المهندس سمير لأنه ساعدك في الحصول على شقة، وكذلك شاب مسيحي كان يعمل في المكتبة الصوتية بأحد الكنائس، لأنه كان يطبع الشريط الخاص بك، كذلك المهندس رشاد لأن ابنتك كانت تعمل في مكتبه سكرتيرة  وكان يساعدكم مادياً. وجهت إليهم تهمة التبشير بالمسيحية ومساعدتك على الارتداد واعتناق المسيحية والطعن في الإسلام، والآن بعد أن عرفوا أنك هربت منهم فإنهم يقومون الآن بالبحث عنك في الإسكندرية وعند مدخل القاهرة والإسكندرية."

 

مجداً لك يا رب للمرة الثانية يصاب أمن الدولة بالغباء وبالعمي ترافق سيارتنا سيارتان لأمن الدولة مسافة مائة كيلوا مترات أو أكثر دون أن يتعرضوا لي أو يتعجلوا القبض علي وحين نتوقف في مزرعة دير الأنبا بيشوي يسبقونا إلى الرست وعندما تمر السيارة التي كنت أركبها يظنون أني بداخلها وتمر ساعة ونصف ساعة دون أن يكتشفوا أني غير موجودة بالسيارة، تصيبهم يا ربي بالعمي لا يرون أني غير موجودة وأتمكن أنا من العودة إلى الإسكندرية في هذا الوقت وتصيبهم أيضاً بالغباء بحيث أنهم يبحثون عني في السيارات المتجهة إلى القاهرة ولا يفكرون أنني قد أكون في طريقي إلى الإسكندرية وعندما يتنبهوا إلى ذلك أكون قد غيرت شقتي التي كنت أقيم فيها واستأجر شقة مفروشة صغيرة لا يعرف أحد طريقها، كل هذا التدبير لي أنا؟ إنها خطة محكمة! لقد وعدتني ألا أقع في أيديهم، فكيف يستطيعون أن يصلوا إلي وأنا في حمايتك، اختبئ في حضنك الرحيم وتحيطني بذراعيك، نعم شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني، نعم حبيبي لي وأنا له. والآن يجب أن أترك الإسكندرية وأذهب إلى القاهرة . . لقد دبرت لي يا حبيب فقد دعتني إحدى الصديقات للإقامة في إحدى شقق عمارة تمتلكها، وهي شقة تؤجرها مفروشة. وجمعت حاجياتي وركبنا السيارة وتوجهنا إلى القاهرة وفي الطريق عند مدخل الإسكندرية وجدت لجنة توقف جميع السيارات الخارجة من الإسكندرية والمتهجة إليها، ولكن أجد سيارتنا تمر من أمام اللجنة دون أن يوقفها أحد بل بالعكس يلوح لنا أحد الضباط لكي نمر بسرعة، وكيف توقفنا لجنة وأنت يا حبيب تسير بوجهك أمامنا وتنير لنا الطريق.

 

وصلنا إلى القاهرة ثم إلى مصر الجديدة . . إن العمارة التي سوف اسكن فيها تقع بجوار قسم النزهة والجميع يعرفونني جيداً، ويجب ألا أفتح نافذة أو أخرج إلى الشارع أو يصدر من الشقة أي صوت أو حتى يفتح باب الشقة لكي لا يراني أحد، ولا أحد في العمارة يعرف أن هناك سكان بهذه الشقة . . انهم يعرفون أنها خالية ومغلقة ويجب الاستجابة لكل هذه الأوامر التي وجهت إلي . . ليس أمامي اختيار.

 

 

 

 

 

 

خروجي من مصر

 

مرت الأيام طويلة وثقيلة، وتعرضت لضغوط شديدة لدرجة أني كنت أشعر بالجوع أنا وابنتي، لكن ماذا نفعل! لا أستطيع أن أخالف هذه الأوامر، لابد أن انتظر إلى المساء حتى أجد من أرسله ليشتري لنا طعاماً. وأحياناً كانت هذه الصديقة تسافر أو تذهب لزيارة أصدقائها وتتركنا بدون طعام لمدة يوم أو يومين ولكن ليس أمامنا سوى الصبر. مرت أربعون يوماً على هذه الحال وقلت في نفسي لعلي أخطأت والرب يؤدبني ومن يحبه الرب يؤدبه، ووقفت أصلي "إلهي سامحني إن كنت قد أخطأت بقصد أو بغير قصد، إلى متى سأظل في هذا العذاب! إني أشعر أني سجينة في هذا البيت. ووعدني أحد الأصدقاء أنه سوف يدبر لنا جوازات للسفر للخارج ولم يتمكن من وعده، أرجوك يا إلهي لا أستطيع البقاء هنا أكثر من ذلك" وجاء صوتك الحبيب في صدري "أنت لم تفهمي ما قلته لك أول مرة عندما قلت لك أنظري إليّ، وقلت أني خائفة، قلت لك لا تخافي أنظري إلي، ورغم أني أنقذتك عدة مرات إلا أنك لا زلت تخافين وتنظرين إلى البشر، قومي واخرجي وسوف أدبر لك من يساعدك في استخراج بطاقات شخصية جديدة باسمك الجديد، إنه ذلك الشخص الذي كان قد وعدك من قبل ولكن عند انتشار الشريط الكاسيت واضطراب الموقف خاف منك وابتعد عنك، سوف أعطيه سلاماً ليقوم بهذه المهمة ولا تخافي . . سلامي يملأ قلبك" آه سامحني يا قدير . . أنا ضعيفة، أعن ضعفي وقوني. وفي صباح اليوم التالي خرجت إلى الشارع وأن في حمايتك ورعايتك واتصلت تليفونياً بهذا الشخص وأجده يرد علي قائلاً "كنت أفكر فيك بالأمس وتناقشت أنا وزوجتي وأمي وأختي وقررنا جميعاً بعد أن صلينا أن أستخرج لك ولابنتك بطاقتين شخصيتين جديدتين بأسماء جديدة، حاولي أن تحضري معك صور لك ولابنتك وحاولي أيضاً أن تغير في شكلك وأرجوك أن يتم هذا في أسرع وقت ممكن" كدت أطير من الفرح لقد قرروا بالأمس فقط أن يقوموا باستخراج البطاقات في نفس الوقت الذي كلمتني فيه، أمرتهم أن يوافقوا وكان، وكيف لا يكون وأنت يا حبيب صادق الوعد أمين، سجدت عند قدميك أشكرك وجاء صوتك الحبيب في صدري قائلاً "سوف أعطيه سلاماً وسوف يقوم باستخراج جوازات سفر لك ولابنتك."

 

سافرت إلى هذا الشخص أنه في بلدة صغيرة تبعد عن القاهرة حوالي مائة وعشرين كيلومترات، قابلني بكل ترحاب ووجدت فيه محبة المسيح الصادقة دون غش أو رياء وأعطيته الصور الخاصة بي وبابنتي ووعدني أن أعود إليه بعد يومين فقط أنا وابنتي لنستلم البطاقات الجديدة، وعدت إلى القاهرة. ما كل هذا! أنا أسير في الشارع وفي مصر الجديدة وأركب المواصلات لقد ذهب الخوف بعيداً عني وسلام الله يملأ قلبي.

ظللت أعد الساعات المتبقية بل الدقائق حتى حان موعد استلام البطاقات . . سافرنا أنا وابنتي ووصلنا وإذ به يقدم لنا بطاقتين، إنه صادق وفي بوعده وكيف لا والرب قد أمر، شكرت الحبيب وفوجئت بهذا الشخص يقول "هل تفكرين في السفر للخارج أم ستكتفي بهذه البطاقات وتحاولي الظهور في مكان آخر بشخصيتك الجديدة؟" قلت له "إني أفكر في السفر للخارج . . لكن لتكن إرادة الله لا إرادتي ولكن لماذا تسألني هذا السؤال؟" قال "مستعد أن استخرج لك ولأبنتك جوازات السفر ولكن من بلدة أخرى. ما رأيك؟" قلت له في لهفة "طبعاً موافقة" فقال "أعطيني فرصة عشرة أيام أو أسبوع حتى أجهز لك الأوراق المطلوبة." شكرته وانصرفنا وفي الطريق رفعت قلبي لك أشكرك أنت هو أنت ولا أحد سواك، سأظل أكرر ما دمت حية، أنت صادق الوعد وأمين، بيدك كل شيء ومعك لا نحتاج لشيء، ليت الجميع يعرفون كيف تدبر حياة من يسلمك بصدق حياته، بهذه السرعة وهذه البساطة بكلمة منك ملأت قلبه سلاماً، في لحظة تغير، بعد أن خاف مني ورفض مساعدتي أجده يعرض علي استخراج جوازات السفر، لك المجد الدائم، إلهي بارك هذا الرجل بكل بركة وحافظ عليه وثبته في إيمانك هو وأهل بيته ليتمجد اسمك القدوس الآن وكل أوان، أشكرك . . أسبحك . . أسجد لك لآخر لحظة في عمري. عدت إلى ذلك المنزل وقررت أن أتركه وأعود إلى الإسكندرية بمفردنا لا حاجة لنا لبشر أو سيارة خاصة، سافرنا في الأتوبيسات. وجهك الحبيب يسير أمامي ينير لي الطريق قدني يا إلهي أسير وراءك في أمان فرحة . . سعيدة . . مطمئنة.

 

وصلت إلى الإسكندرية وذهبت إلى تلك الشقة المفروشة أنها في مكان هادئ على البحر ونحن في شهر ديسمبر والجو بارد، لا يوجد أحد تقريباً. ولكنك أنت معي دائماً أنت ساكن في أعماق قلبي ونفسي أحبك يا إلهي. مضى أكثر من عشرة أيام، لابد أن أوراق جوازات السفر قد أعدت وقررت أن أسافر إلى هذا الشخص العزيز . . سافرت إليه ووجدته يقدم لي أوراق جوازات السفر مختومة وموقعة من شخصين آخرين وبعد ذلك سافرنا إلى بلد آخر وتم استخراج جوازات السفر بسرعة مذهلة، لقد تسلمناها في نفس اليوم. نعم أنه أنت المدبر فلا داعي للعجب . . إنه عملك العجيب وكيف لا يكون عجيباً وأنت عجيب! مبارك اسمك.

 

عدت إلى الإسكندرية ومعي البطاقات الجديدة وأيضاً جوازات السفر الجديدة ولكن هناك مشكلة كبيرة كيف سأحصل على تأشيرة دخول أي دولة؟ وأين أسافر؟ وتذكرت على الفور أنه في أحد الأيام "الخمسين يوم" التي قضيتها في القاهرة بمصر الجديدة قادني إلهي الحبيب إلى أحد الكنائس وسلمت على راعي الكنيسة، فوجئت به يقول لي "لابد أن تسلمي نفسك للبوليس لا مفر أمامك ولا داعي للهرب أكثر من ذلك أن هناك الكثيرون في السجن بسببك" قلت له في هدوء "إنها إرادة الرب وما ذنبي" فقال "لا تنسي أنهم مغتاظون بسبب عدم مقدرتهم القبض عليك ولذلك يقبضون على كل من له صلة بك أو حتى من يجدون شريط الكاسيت المسجل بصوتك معه، فلا داعي لإيذاء الناس أكثر من ذلك" فقلت له "ولكني أخذت وعد من ربي أني لا أقع في أيديهم وأنه بقي لي عمل آخر سيستخدمني فيه الله، لقد قال لي لا تخافي سوف أرتب لك كل شيء" فابتسم وكأني أهدني أمامه وقال "أظن أنه كلما أسرعت في تسليم نفسك للبوليس كان أفضل لك" فقلت له "ربما لو سلمت نفسي للبوليس وتعرضت للضرب والتعذيب أضعف وأضطر إلى الاعتراف بأسماء الأصدقاء الذين كانوا يساعدونني مادياً والذين كانوا يستضيفونني في منازلهم" فصرخ قائلاً "إياك أن تذكري اسم أي أحد منهم، الجميع يعرف أنك كنت تشغلين منصباً كبيراً وكنت تتقاضين مرتباً كبيراً وكان لك سيارة، قولي أنك كنت مدخرة ثمن بيع السيارة وجزء من مرتبك" قلت له "لقد أكد لي ربي أنه سيساعدني في الحصول على بطاقة شخصية جديدة باسم جديد وأيضاً جواز سفر لي ولابنتي وسوف يدبر لنا كل شيء وسوف نسافر إلى الخارج،" رد علي قائلاً "إن تمكنت من ذلك فأنا أستطيع أن أحضر لك تأشيرة دخول إحدى الدول الأوروبية" وسلمت عليه وانصرفت. لم يعلق في ذهني إلا كلمة واحدة أنه يستطيع أن يحضر لنا تأشيرة دخول إحدى الدول الأوروبية وفي الحال تذكرت كل هذا الحديث وجريت إلى التليفون أتصل به ووجدته يرد علي بنفسه وأعطاني موعد لأحضر إليه جوازات السفر. إلهي الحبيب السماء والأرض تزولان وحرف واحد من كلامك لا يزول. أشهد لك! لقد لمست بنفسي صدق كلامك وصدق وعدك . . أشكرك يا إلهي . . إنك جعلتني أعرفك وأحبك وأثق فيك كل الثقة . . ليتني عرفتك قبل ذلك ولكنك تختار دائماً انسب الأوقات. في صباح اليوم التالي ركبنا الأوتوبيس المتجه إلى القاهرة . . يا للعجب إنه توجد لجنة في بداية الطريق تفتش كل السيارات ولكنها لا تفتش الأوتوبيسات، انهم لا يعتقدون أن لي الجراءة أن أركب أوتوبيس، يظنونني أني لا زلت خائفة أهرب من مكان لآخر مختبئة في سيارة وربما في شنطة سيارة ولكن لا يعرفونك يا إلهي! لا يعرفون معنى أنه إذا كان الله معنا فمن علينا، لا يدركون عمق معناها ولكني بنعمتك عرفت وعشت وجربت بنفسي . . أريد أن أصرخ بكل قوتي في الجميع قائلة "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب."

وصلت إلى القاهرة وذهبت إلى الكنيسة في وضح النهار وسلمته الجوازات وكان علي أن أعود إلى الإسكندرية في نفس اليوم وليس أمامي سوى السيارات الأجرة، إنها لسبعة أشخاص فقط ولكن ليس يهم! أنت معي . . ركبت أنا وابنتي وجلسنا بجوار السائق ومكثت طول الطريق أشكرك يا حبيب . . فوجئنا بلجنة توقف السيارة ووقفت السيارة . . أنا وابنتي في أول السيارة! وادخل الضابط رأسه من النافذة  ولكنه لم ينظر إلينا . . إنه لم يرانا، أنا واثقة أنه لم يرانا . . أشار للسائق "مر" وسارت السيارة. مجداً لك يا ربي وإلهي ومخلصي ورجاء العالم كله.

 

ودعنا عام 1989 واستقبلنا عام 1990 ووقفت بين يديك يا قدير أصلي لك وأشكرك، ومرت أمامي أحداث عام 1989، يا له من عام حافل . . كل هذه الأحداث ويمينك القوية تظللني وتحميني وتنقذني. مبارك اسمك القدوس . . أرجوك يا إلهي استخدمني لمجد اسمك . . ما فائدة أيامي وحياتي على الأرض إن لم تكن لك وبك ومعك، إلهي كلي اشتياق إليك، مشتاقة إلى رؤياك الحبيب، متى ترد غربتي! أنا غريبة على الأرض، إلهي ضمني إليك . . إلهي المعتني بي أكثر من اهتمام الأم برضيعها من أين لي ثمن تذاكر السفر للخارج؟ وكيف سأمر وصورتي في كل المطارات والمواني؟ نعم اسمي تغير إلى اسم جديد، ولكن صورتي؟ لكني أعلم جيداً أنه غير المستطاع عند البشر مستطاع عندك . . أنت كلي أملي . . وضعت كل أحمالي عند قدميك ولن أنسى القول المكتوب "سلمنا فصرنا نحمل."

 

ثم جاء صوتك الحنون في صدري قائلاً "لا تخافي، انظري إلي فقط" وشعرت بالراحة والسلام، إنك دائماً تملأ قلبي ونفس سلاماً. وفي تلك الليلة رأيت في نومي أن يدك الحنون تمد لي وتعطيني تذكرتي الطائرة للسفر للخارج وعندما استيقظت من نومي وقفت بين يديك الكريمتين أشكرك وأمجدك وأسبحك واستسمحك فأنا لا زلت ضعيفة، أفكر بعقلي البشري المحدود، سامحني يا إلهي الحبيب. ومرت الأيام وجاء موعد استلام جوازات السفر وسافرنا من الإسكندرية إلى القاهرة في الأوتوبيس وأيضاً لا زالت اللجنة في الطريق تبحث عن ولا يراني أحد، واستلمت الجوازات وبها تأشيرة دخول إحدى الدول الأوروبية وفوجئت "بأبونا" يقول "لك عندي مبلغ ثلاثة آلاف جنيه من راعي كنيسة أخري كان يبحث عنك ليسلمك هذا المبلغ لأنه عرف أنك في حاجة إليه وأيضاً دبر لك مبلغ ألف دولار سوف تأخذيها عند سفرك." قلت له "لن آخذ هذا المبلغ لأنه ثمن تذاكر السفر وأنا رأيت في رؤية أن يد أبي السماوي تعطيني تذاكر السفر فأرجوك اشتر أنت لي تذاكر الطائرة بيدك وأعطها لي بعد ذلك" ووافق وصافحته وشكرته وانصرفنا وكان علينا أيضاً أن نعود في نفس اليوم إلى الإسكندرية وكذلك ليس أمامنا إلا السيارات الأجرة. وبنفس الطريقة نمر على لجنة عند مدخل القاهرة وأخرى عند مدخل الإسكندرية، ولكن أشكرك يا إلهي الحنون لقد ملأت قلبي سلاماً وساعدتني أن أطرح الخوف خارجاً، وقبل أن أعود إلى الإسكندرية شعرت بشوق إلى إحدى الصديقات، إنها صديقة مسيحية مؤمنة ملأ نور المسيح قلبها، أحبتني وفتحت لي قلبها وبيتها وفي الوقت الذي خاف مني الجميع وابتعد عني، اقتربت هي مني واستضافتني عندها أكثر من شهر، أحاطتني بحبها لدرجة أن أحسست أنها أمي وأحسست هي أيضاً كأني أمها وأصبح زوجها أخي وأولادها أولادي، باركها يا رب بكل بركة وحافظ عليها وسيج حولها وبارك في زوجها وأولادها . . صليت لك يا حبيب هل أذهب لزيارتها وجاء ردك في صدري "لا تخافي اذهبي" وذهبت وعندما فتحت الباب ووجدتني احتضنتني بكل حب وحنان وشعرنا أننا نحب بعضنا البعض في اسمك القدوس المبارك العظيم. أمضيت عندها حوالي ساعة لكني لم أشعر بالوقت وفوجئت بشقيقها يقول "ما رأيك في أن تسافري من ميناء آخر غير ميناء القاهرة وتسافري بوسيلة أخرى ولا تسافري إلى الدولة التي تقصديها مباشرة بل قسمي الطريق" ووجدت كلامه يملأ نفسي وعقلي وشعرت أنها رسالة منك أنت يا حبيب، وفهمت الآن لماذا شعرت بالحنين إليها ولماذا جاء ردك في صدري "لا تخافي اذهبي" لكي ترشدني إلى الطريقة التي أسافر بها. ما أعظمك يا إلهي! ما أحلاك! أحبك يا إلهي . . قلبي وروحي يهتفان بحبك وعقلي وفكري مشغولان بك . . آه يا ربي لو عرف الجميع حسن تدبيرك الذي يفوق العقل والخيال . . لا بل لا يستطيع خيال أن يصل إليك، أنت. يا من تطعم طيور السماء وسمك البحار وحتى دود الأرض دون أن يسألك! فكيف يكون مقدار عطائك لمن يسلمك حياته وأيامه ويعترف بك، إلهي أنت تشعرني دائماً أنك لا تهتم بأحد غيري على الأرض . . تشعرني أني ابنتك الوحيدة المدللة التي توليها كل الحب وكل الحنان وكل الرعاية . . مجداً لك.

 

وصلنا إلى الإسكندرية وما زال كلام شقيق صديقتي يرن في أذني. سجدت بين قدميك وشكرتك يا إلهي الحبيب الطيب، وطلبت منك إن كانت هذه الرسالة منك وبهذه الطريقة تريدني أن أسافر، أعط "أبونا" هذا الفكر وهذه الطريقة. أسبحك وأمجدك وأسجد لك لآخر نفس في صدري.

 

وبعد يومين . . اتصلت تليفونياً ووجدته يقول لي "احضري غداً واحضري معك كل حاجياتك لأني حجزت لك للسفر." في صباح اليوم التالي سافرت إلى القاهرة وفوجئت به يقول لي "لقد سمعت هاتفاً في أذني يقول ألا تسافري من مطار القاهرة ولكن من ميناء آخر وبوسيلة أخرى، وأن نقسم الطريق وليس إلى الدولة التي ستستضيفك بل إلى أخرى ثم إليها، وفي تلك اللحظة تأكدت أنه صوتك ولا عجب نعم أنت أقرب إلي من نفسي لأني أنا فيك وجزء منك، ألسنا كلنا أعضاء في جسدك الحبيب، إلهي ما أحلى الحياة معك! أنت تكفل لنا الراحة وتفكر لنا وتدبر لنا أمورنا. تسلمت التذاكر من يدك الكريمة بعد أن صلينا وودعت "أبونا" وأيضاً ودعت القاهرة. لا اعتقد أني سأراها مرة أخرى، كم أحببت بلدي وكم تمنيت أن أبقى فيها ولكن لتكن إرادتك لا إرادتي. أكثر من مرة صليت إليك يا إلهي الحبيب عندما ضاق بي الحال في مصر . . إليه كما أخرجت شعبك بني إسرائيل من مصر أخرجني أنا وابنتي من مصر . . والآن علي أن أستقل القطار إلى بلد آخر أسافر منه للخارج، سيكون السفر يوم الأحد القادم . . أنه اختيارك يا إلهي . . أن أسافر يوم الأحد وإلى هذه الدولة.

 

وصلت إلى هذه المدينة وعلي أن أبقى بها عدة أيام قبل موعد سفرنا، مر الوقت سريعاً ووقفت أصلي لك وأقول لك كما قال موسى عند خروجه مع شعبك بني إسرائيل من مصر "إن لم يسر وجهك فلا تصعدنا من هاهنا" وأيضاً جاء ردك في صدري "لا تخافي أنا حافظ خطواتك" قلت لك أرجوك يا إلهي سر بوجهك أمامي فتريحني.

 

أحضرنا سيارة أجرة ووضعنا حقائبنا وركبنا السيارة وانطلقت إلى الميناء، وصلت في الموعد المحدد وحلمت حقيبتي ودخلت إلى مكتب الجوازات وخلفي ابنتي وأنا أكاد أن أسقط على الأرض، سامحني يا ربي أنها لحظة حرجه وصعبة فقد رأيت صورتي أسفل مكتب ضابط الجوازات . . أخذ الضابط مني جواز السفر والتذكرة وتفحص الجواز للحظة ثم سألني لماذا سوف تسافري؟ قلت له وأنا أرتعد من الخوف "للعلاج، لي أقرباء هناك سوف أقيم عندهم" ثم ختم الجواز وقال لي "مري" وجاءت خلفي ابنتي ومرت من أمامه وانطلقنا إلى الداخل وأنا لا أصدق نفسي، لكن بعد دقيقة وجدت أحد الضباط ينادي على أسمي ويطلب جواز سفري لفحصه مرة أخرى . . شعرت أن صوت دقات قلبي أعلى من كل الأصوات . . جلست ولم أقو على الوقوف وناديتك يا حبيب "الهي لقد وعدتني أني لن أقع في أيديهم وأنا واثقة أنك صادق الوعد أمين . . اللهم التفت إلى معونتي يا رب . . أسرع وأعني" وفي الحال جاء صوتك الحبيب قائلاً "لا تخافي سوف تمرين بسلام" وبعد لحظات جاء الضابط في هدوء وأعطاني جواز سفري دون أن ينطق بكلمة واحدة.

 

مجداً لك يا قدير، وعندما سمعنا النداء بالصعود جرينا أنا وابنتي ونسينا حقائبنا وكان المهم عندنا في تلك اللحظة هو الخروج من الميناء. ركبنا وجلسنا وتنفست نفساً عميقاً وقبل أن يخرج من صدري سمعت في الميكروفون من ينادي علينا وشعرت بإنهيار كامل . . لم أقو على الوقوف أو الرد على من ينادي وذهبت ابنتي لترى ما حدث . . وعرفت السبب . . أننا نسينا حقائبنا . . فأحضرتها ومرت لحظات ثم انطلقنا، وابتعدنا . . وابتعدنا . . وابتعدنا . .